بقلم: د. خالد صبحي الطويل.
دكتوراة في التنمية البشرية، وعضو اتحاد المدربين العرب.
في زمنٍ أصبح فيه الضمير البشري يوزَّع على جرعات، وتُلقى فيه القيم من الطائرات مع “علب تونة” و”علب سردين”، نشهد اليوم مسرحيةً عبثيةً لا يكتبها شكسبير، ولا يخرجها عادل إمام في مسرحية “الزعيم”.. بل يخرجها التحالف الدولي للرحمة عبر الجو.
نعم، نحن في غزة، حيث البشر لا يُعاملون كبشر، بل ككائنات تنتظر أن ينزل عليها الغداء من السماء، لا بفضل الغيوم، بل بفضل الطائرات العسكرية “الحانية” التي تحلق فوقنا ثم تتقيأ مساعدات، عساها تسقط في بطن طفل، أو فوق رأسه.. فالفارق لم يعد مهماً!
مشهد أول: دخول البطل “الباراشوت”!!
تخيل معي المشهد الآتي:
في السماء: طائرة تطلق باراشوتًا عليه علبة فول.
على الأرض: أمّ تبحث عن حليب لطفلها، طفلٌ يبحث عن ماء، وشاب يحاول الإمساك بباراشوت وكأنها لعبة “Catch the food”.
ينزل الباراشوت كأننا في عرض سيرك طائر. الناس تلهث، تتراكض، تتقاتل، وكأنهم في “حلبة مصارعة”، بينما العالم يُصفق من خلف الشاشات:
“واو، أنظروا كم نحن إنسانيون! أرسلنا بسكويتاً!”
مشهد ثاني: سقوط المساعدات على الخيام!!
لا تسألني عن مدى دقة الإسقاط.. فـ”مسرحية الإنزال” لا تحتاج إلى “جي بي إس”، بل إلى ضمير حي، وهذا للأسف غير متوفر.
بعض المساعدات سقطت على الخيام، فهدمت الملجأ الوحيد الذي كان يستر عائلة نازحة.
وبعضها سقط في البحر.. وربما خرجت أسماك غزة لتشكر العالم على “السردين المجاني”.
أما البعض الآخر؟ فقد وصل إلى “أيدي محترفة” تعرف كيف تخزن، وتعيد البيع بسعر “سوق الإنزال السوداء”.
مشهد ثالث: ضجيج الإعلام!!
يا سادة، ليست الفكرة أن تطعم جائعاً، بل أن تُصور نفسك تطعمه.
فالكاميرات كانت أسرع من الباراشوت، والمراسلون كانوا يحصون الكراتين قبل أن تصل الأرض.
وفي نشرات الأخبار: “مشاهد إنسانية رائعة من السماء!”..
رائعة؟! نعم، كروعة مشهد طفل يركض خلف بكيت بسكويت كأنه يركض خلف الحياة.
النهاية المفتوحة!!
هل انتهت المسرحية؟ كلا، فما زال العرض مستمراً.
وما زال العالم يتحدث عن “بطولة المساعدات الجوية”، متناسياً أن الفعل الحقيقي هو فتح المعابر، ووقف القصف، وإعادة الحياة.
لكن من قال إن مسرحيات الواقع يجب أن تنتهي بنهاية سعيدة؟
نحن في غزة، ونعرف جيداً أن “الدراما الواقعية” لا تُعرض في المسارح، بل تُعرض على أرصفة الموت، وتُبث عبر دموع الأمهات.
خاتمة:
شكراً لكم أيها المتحالفون من أجل “رمي الطعام”، شكراً لأنكم جعلتم منّا جمهورًا في مسرحية عبثية عنوانها “مسرحية الإنزال”،
ونعدكم أننا سنواصل الضحك رغم الجوع، وسنواصل الحياة رغم الإنزال.
فغزة لا تعيش على علب معلبة، بل على كرامةٍ لا تسقط بالمظلات.