د.فرح وائل أكرم أبو سيدو
صيدلانية_مدربة صحة و تنمية بشرية
بين الحصار والحرمان تعيش غزة واحدة من أعقد التجارب الإنسانية في العصر الحديث،
حيث انعكست الظروف السياسية و الاقتصادية على كل تفاصيل الحياة، و كان القطاع الصحي من أكثر القطاعات تضرراً. فالنقص الحاد في الأدوية الأساسية، و شح الأجهزة الطبية، و ضعف البنية التحتية للمستشفيات و المراكز الصحية، كلها عوامل ساهمت في خلق بيئة هشّة أمام أي طارئ صحي أو وباء. لكن ما هو أخطر من ذلك أن سنوات الحصار المتواصلة لم تقتصر آثارها على الجانب المادي من الخدمات الصحية، بل امتدت لتطال الوعي الصحي نفسه، إذ تراجعت ثقافة الاهتمام بالصحة لدى المجتمع تحت ضغط الأزمات اليومية و المعارك المتكررة من أجل البقاء.
في غزة، أصبح تأمين الغذاء و الماء و الضوء ليلاً مصدر القلق الأكبر للأسر، مما جعل الاهتمام بالوقاية و الرعاية الصحية في مرتبة متأخرة. كثير من الناس لم يعد لديهم رفاهية الفحص الدوري أو المتابعة الطبية، بل باتوا يتعاملون مع المرض عند حدوثه، وغالباً بطرق بديلة أو غير علمية في ظل ندرة العلاج و صعوبة الوصول إلى الخدمات. هذا الانشغال المستمر بالضروريات الأساسية أضعف الممارسات الصحية الوقائية، مثل التغذية السليمة أو النشاط البدني المنتظم أو الالتزام ببرامج التطعيم، و فتح الباب أمام عادات قد تعمق المشكلات الصحية أكثر مما تعالجها.
ضعف الوصول إلى المعلومات الموثوقة يمثل تحدياً آخر. فمع انقطاع الكهرباء الدائم و ضعف الإنترنت و غياب البرامج التوعوية المنتظمة، يجد المواطن نفسه أمام فجوة معرفية تجعله عرضة لتلقي معلومات غير دقيقة أو مضللة عبر وسائل غير متخصصة. ولأن المجتمع بطبيعته متماسك و يميل إلى مشاركة التجارب، تنتشر الممارسات الشعبية أو الوصفات المنزلية التي قد تكون مضرة أكثر مما هي نافعة، و هو ما يعكس كيف يمكن للحرمان أن يفرض بدائل غير صحية لكنها تصبح مقبولة اجتماعياً بسبب غياب البدائل العلمية.
إلى جانب ذلك، فإن التوتر النفسي و الضغط المستمر الناتج عن الصدمات المتكررة للحروب والحصار يترك بصمته على الصحة العامة. فالإنهاك النفسي يقلل من الدافعية للعناية بالصحة الجسدية، ويزيد من انتشار الاضطرابات المرتبطة بالقلق و الاكتئاب، و التي بدورها تؤثر على العادات الغذائية و النوم و السلوكيات اليومية. إن التعامل مع هذه الحلقة المعقدة يتطلب فهماً عميقاً بأن الصحة ليست مجرد علاج للأمراض الجسدية، بل هي تكامل بين الوعي الجسدي و النفسي و الاجتماعي.
إعادة بناء ثقافة الوعي الصحي في غزة لا يمكن أن تكون مجرد مشروع جانبي، بل هي حاجة ملحّة تمس بقاء المجتمع و صموده. و من أجل ذلك، يجب التفكير بطرق واقعية و مرنة تتناسب مع ظروف الحصار. يمكن على سبيل المثال استثمار الإذاعات المحلية و صفحات التواصل الاجتماعي التي يتابعها الناس بكثافة لتقديم رسائل صحية بسيطة و عملية تراعي الإمكانات المتاحة، مثل كيفية الوقاية من الأمراض المعدية باستخدام مواد منزلية متوفرة، أو طرق التعامل مع الضغط النفسي اليومي بأدوات غير مكلفة. كذلك يمكن للمدارس الميدانية و المصليات و مراكز الشباب أن تتحول إلى منصات للتثقيف الصحي من خلال جلسات توعوية أو أنشطة مجتمعية، خصوصاً أن هذه المؤسسات ما زالت قادرة على الوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع.
من المهم أيضاً تفعيل دور الكوادر الصحية الشابة، سواء من طلبة كليات الطب و التمريض و الصيدلة أو من الخريجين، ليكونوا بمثابة سفراء للوعي الصحي داخل الأحياء و المخيمات، فهم الأقرب إلى الناس و الأقدر على كسر الحواجز النفسية معهم. كما أن دمج الصحة النفسية في الخطاب الصحي ضرورة لا تقل أهمية عن الحديث عن الأمراض الجسدية، لأن تعزيز الصمود النفسي يعزز قدرة المجتمع على مواجهة التحديات الصحية بشكل عام.
و رغم كل هذه الصعوبات، فإن التجربة الفلسطينية في غزة أظهرت قدرة فريدة على التكيف و الإبداع في مواجهة الظروف القاسية. فكما ابتكر الناس بدائل للطاقة و الماء و الغذاء، يمكنهم ابتكار طرق جماعية لحماية صحتهم و تعزيز وعيهم. المبادرات الصغيرة، مثل حملات النظافة في الأحياء و المخيمات، أو مجموعات الدعم النفسي، أو حلقات التوعية البسيطة في المدارس و المراكز المجتمعية، قد تبدو متواضعة لكنها تشكل فارقاً كبيراً حين تتراكم و تصبح ثقافة عامة.
إن إعادة بناء ثقافة الوعي الصحي في غزة ليست ترفاً فكرياً و لا مجرد مشروع إعلامي، بل هي جزء أساسي من معركة البقاء التي يخوضها المجتمع يومياً. هذه الثقافة تمثل الحصن الأول في وجه الأوبئة، و تخفف من العبء الواقع على النظام الصحي الهش، و تمنح الأفراد شعوراً أكبر بالسيطرة على حياتهم و صحتهم رغم كل القيود.

