بقلم: د. فرح وائل أكرم أبو سيدو
صيدلانية، مدربة صحة و تنمية بشرية، عضو عامل في اتحاد نقابات المدربين العرب
يشكل قطاع غزة نموذجا استثنائيا لدراسة العلاقة بين الحرب والضغوط النفسية المستمرة وبين فعالية الأدوية النفسية والعصبية حيث يعيش السكان تحت ظروف مركبة من الحصار المستمر والعدوان العسكري المتكرر والانتهاكات التي تمس أبسط حقوقهم الإنسانية هذه البيئة القاسية لا تترك أثرا سطحيا بل تدخل بعمق في التركيب النفسي والعضوي للإنسان فتغير من استجابته للعلاج وتضع الأطباء والمرضى أمام تحديات غير مسبوقة.
لقد تبين في العديد من الأبحاث النفسية والعصبية أن الاستجابة الدوائية لا تعتمد فقط على الجرعة أو نوع الدواء وإنما ترتبط بشكل وثيق بالحالة النفسية والعاطفية للمريض فالمريض الذي يعيش حالة من الاستقرار والطمأنينة يكون أكثر استجابة للأدوية المضادة للاكتئاب أو المهدئات العصبية في حين أن المريض الذي يتعرض لضغوط حادة أو صدمات مستمرة يصبح أقل استفادة من العلاج بل قد يحتاج إلى وقت أطول للوصول إلى النتائج المرجوة وفي غزة نجد أن هذه الضغوط ليست طارئة وإنما هي مستمرة ومزمنة ما يجعل التحدي مضاعفا.
الدراسات التي أجريت على مناطق النزاع أوضحت أن التوتر المزمن يؤدي إلى تغيرات هرمونية وجسمية ملحوظة إذ يرتفع إفراز هرمون الكورتيزول بشكل دائم مما ينعكس على الجهاز العصبي المركزي ويؤثر على مستقبلات النواقل العصبية التي تعتبر الهدف المباشر لمعظم الأدوية النفسية مثل مضادات الاكتئاب ومضادات القلق إن هذه التغيرات تجعل الدماغ أقل استجابة للدواء كما أن حالة فرط النشاط العصبي الناجمة عن الخوف المستمر تضعف التأثير المهدئ للعديد من الأدوية مما يفسر سبب معاناة المرضى في غزة من ضعف فعالية العلاج رغم الالتزام الدوائي.
كذلك فإن الضغط النفسي المستمر ينعكس على الجهاز الهضمي والدورة الدموية مما يؤثر على امتصاص الأدوية وتوزيعها في الجسم وهذا يفسر من الناحية السريرية لماذا يحتاج بعض المرضى في غزة إلى جرعات أعلى من المعتاد أو إلى تعديل متكرر في خطط العلاج للوصول إلى مستوى مقبول من الاستقرار النفسي كما أن التغيرات في النوم والحرمان المزمن من الراحة تؤثر على آلية عمل الدواء لأن معظم الأدوية النفسية تتفاعل بشكل مباشر مع دورات النوم والاستيقاظ.
الحرمان من الاستقرار والعيش في بيئة آمنة يقلل أيضا من تأثير الدواء لأن الدماغ يبقى في حالة تأهب قصوى حتى أثناء النوم فيتحول العلاج الدوائي إلى عامل محدود التأثير دون وجود تدخلات نفسية واجتماعية داعمة وقد أوضحت ملاحظات سريرية أن المرضى الذين يتلقون دعما عائليا أو مجتمعيا بجانب الدواء يحققون نتائج أفضل بكثير من الذين يعتمدون على الدواء وحده في ظل غياب هذا الدعم.
جانب آخر بالغ الأهمية يتمثل في الانقطاع المتكرر للأدوية بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية في غزة فالمريض الذي يتوقف فجأة عن العلاج بسبب نفاد الدواء يتعرض لانتكاسة حادة قد تتجاوز الأعراض السابقة وتدخل في نطاق أشد خطورة مثل حالات الانتحار أو السلوك العدواني هذا الانقطاع المستمر يشكل معوقا رئيسيا أمام فعالية العلاج ولا يتعلق بالدواء في حد ذاته بل بمدى استمرارية توافره.
لقد أثبتت التجارب الميدانية أن فعالية العلاج النفسي الدوائي تتضاعف عندما يقترن ببرامج تدخل نفسي جماعي أو فردي حيث يتم تدريب المرضى على آليات التكيف مع الضغوط وإعادة بناء مهارات السيطرة على القلق والتوتر ومع ذلك فإن هذه البرامج تظل محدودة في غزة بسبب نقص الموارد والبنية التحتية الصحية مما يجعل الدواء الخيار الأكثر حضورا رغم إدراك الأطباء لقصوره وحده.
إن التحدي الحقيقي في غزة لا يتمثل فقط في وصف الدواء المناسب وإنما في إدراك أن هذا الدواء يعمل في بيئة نفسية واجتماعية معقدة تتطلب تكاملا بين الطب النفسي والدعم الاجتماعي والخدمات المجتمعية ولذلك فإن الطبيب يواجه حالة فريدة تجمع بين الصعوبات البيولوجية والضغوط النفسية والسياسية معا وكلها تتفاعل لتحدد فعالية العلاج.
بناء على ما سبق يمكن القول إن الحرب والضغوط النفسية المستمرة تقللان بشكل ملموس من فعالية الأدوية النفسية والعصبية في غزة وذلك عبر آليات متعددة تبدأ من التغيرات الهرمونية والعصبية وتصل إلى المعوقات الاجتماعية والسياسية ومن هنا تظهر الحاجة إلى استراتيجيات علاجية شاملة توفر الدواء باستمرار وتدعم تدخلات العلاج النفسي وتخلق شبكات حماية اجتماعية للمريض حتى يمكن أن يحقق العلاج أهدافه ويمنح المريض فرصة حقيقية للتعافي والتكيف.

