بقلم: د. نداء عبد العزيز رزق
أخصائية تحاليل طبية، مدربة صحية وكاتبة.
سمعنا كثيرًا العبارة المُطمئنة: “لا أحد يموت من الجوع.”
لكننا هنا في غزة رأينا الحقيقة التي تُكذّب تلك العبارة، هنا لا أحد ينجو من الجوع إلا الموت!
رأينا جيوبًا نُهبت حتى نخاعها، وموائد تآكلت حتى الفراغ، وبطونًا خاوية تئن تحت وطأة الحاجة.
لم تعد البطون تطلب الطعام، بل تطلب الرحمة.
حليب الأطفال أصبح رفاهية، وصرخات الرضّع تخترق جدران الصمت.
شاب يتلوى من الجوع، لا يقوى على الوقوف، تتآكله الدوخة كأنما الأرض تلفظه.
مريض السكري احترق سُكّره، ولم يجد ما يُنعشه سوى الصبر على الموت.
مرضى السرطان نهشهم الكيماوي، لكنهم لا يجدون ما يسد رمقهم، لا مغذٍ، لا فاكهة، ولا حتى رغيفًا.
امرأة تتكئ على الجدران كي لا تقع، تتأرجح وهي تحاول تلبية حاجات أطفالها، يتقطع قلبها وهي تسمع أحدهم يسألها:
“ماما، مفيش أكل اليوم؟”
طفل يتنفس الحياة فقط، لكنه لا يجد ما يتنفسه من غذاء، سوى رائحة الأمل المحروق.
أطفال برزت عظامهم تحت الجلد، صاروا كالهياكل الصامتة، لا دم، لا نضارة، فقط نظرة شاحبة تسأل:
هل نموت الآن أم بعد قليل؟
الأجساد تتهاوى في الطرقات، في العيادات، وفي الطوابير أمام المخابز التي لم تعد تخبز.
العيون تغور في محاجرها، والأنفاس تقطعها لُقمات لا تأتي.
الجوع هنا ليس شعورًا… إنه معركة خاسرة مع الحياة.
الجوع في غزة عقوبة جماعية، تجويع متعمّد، موت بطيء يُبثّ على الهواء، ويُصفّق له الصامتون.
هناك، في زاويةٍ عَفِنةٍ من هذا العالم الميت ضميرًا، فوق كل هذا الألم، ببطون خاوية، وعيون غائرة، وجوعٍ لا يُغتفر… يُطلّ علينا الموت بحُلّة جديدة.
حلّة تُخفي وراءها تلك الأسنان المتوحشة التي ستغرس أنيابها في فرائسها الجائعة داخل ما يُسمى زورًا بـ”نقاط المساعدات الإنسانية”.
تلوح كرتونة الدم… لا تحمل شرف الإنقاذ، بل تحمل بصمات الخذلان. كأنها كفنٌ من كرتون، قُدّم بدل الحياة، فصمت العالم وصفّق للمسرحية.
هل تعرفون لعبة الحبار الكورية؟ تلك اللعبة التي خُيّر فيها الفقراء بين الموت أو النجاة عبر اختبارات دموية؟
نحن في غزة لا نحتاج إلى دراما مصوّرة… نحن نصوّرها بدمائنا.
نسختنا الغزّاوِيّة من اللعبة أكثر قسوة، بلا تمثيل، بلا كاميرات، بلا جمهور يتأثر.
أبطالنا هنا لا يركضون نحو المال، بل نحو كرتونة مواد غذائية قد لا تكفي ليومين.

وكانت الحقيقة…
الوجبة هنا ليست جائزة، بل مقامرة على الحياة: من يصل أولًا؟ من ينجو من القصف؟ من لا يسقط تحت الأقدام؟ من لا تُصوّره عدسة الاحتلال وهو يمدّ يده مذلولًا؟
سمعنا كثيرًا العبارة المُطمئنة: “لا أحد يموت من الجوع.”
لكننا هنا في غزة رأينا الحقيقة التي تُكذّب تلك العبارة، هنا لا أحد ينجو من الجوع إلا الموت!
رأينا جيوبًا نُهبت حتى نخاعها، وموائد تآكلت حتى الفراغ، وبطونًا خاوية تئن تحت وطأة الحاجة.
لم تعد البطون تطلب الطعام، بل تطلب الرحمة.
حليب الأطفال أصبح رفاهية، وصرخات الرضّع تخترق جدران الصمت.
شاب يتلوى من الجوع، لا يقوى على الوقوف، تتآكله الدوخة كأنما الأرض تلفظه.
مريض السكري احترق سُكّره، ولم يجد ما يُنعشه سوى الصبر على الموت.
مرضى السرطان نهشهم الكيماوي، لكنهم لا يجدون ما يسد رمقهم، لا مغذٍ، لا فاكهة، ولا حتى رغيفًا.
امرأة تتكئ على الجدران كي لا تقع، تتأرجح وهي تحاول تلبية حاجات أطفالها، يتقطع قلبها وهي تسمع أحدهم يسألها:
ماما، مفيش أكل اليوم؟
طفل يتنفس الحياة فقط، لكنه لا يجد ما يتنفسه من غذاء، سوى رائحة الأمل المحروق.
أطفال برزت عظامهم تحت الجلد، صاروا كالهياكل الصامتة، لا دم، لا نضارة، فقط نظرة شاحبة تسأل:
في غزة، نقاط التوزيع ليست أماكن نجاة، بل مشاهد رعب علني!
نساء يُدفعن، رجال يتصارعون، وأطفال يتزاحمون على وجبة واحدة، أو رغيف يابس.
كرتونة الطعام باتت مرادفًا للكرامة المهدورة، للمذلّة العلنية، وأحيانًا… للشهادة.
فهناك من خرج ليأخذ حليبًا لطفله، فعاد إليه جثةً محمولةً على الأكتاف، أو ركامًا على الرصيف.
المساعدات هنا ليست يدًا ممدودة بالعون، بل فخًا مفخخًا، اختبارًا للذل، وتجسيدًا حيًّا لمقولة: “من الجوع ما قتل!”.
هكذا نلعب لعبتنا القاتلة كل يوم، بلا اختيار، بلا توقف، بلا مشهد ختامي… فقط جوع، وذل، وانتظار قذيفة قد تنهي السباق.
ووسط كل هذا الجوع، وهذا الموت المتنكّر في هيئة مساعدة، وذاك الانهيار المتواصل، مع تلك الصرخات التي تستغيث من تحت الركام، يستمر العالم في وضعية “الصامت”.
شعوب تُصفّق لمباريات كأس العالم، وقادة يشجبون بحروف باردة لا تساوي نقطة دم، ومنظمات تكتفي بعدّ الضحايا كأرقام في تقارير سنوية مغلّفة بالأكاذيب.
شعبٌ بأكمله يُذبح ببطء، يُجوّع عمدًا، يُهان في العلن… ولا أحد يتحرّك. لا أحد يوقف هذه المهزلة.
شعبٌ أعزل تُستهدف فيه البطون، والأحلام، والأجساد، والكرامة… ولا نعرف ماذا يجب أن يحدث أكثر؟
هل يجب أن تُنزع قلوب أطفالنا وتُعلّق على شاشاتكم كي تهتزّ مشاعركم؟
هل يجب أن نموت عن بكرة أبينا حتى يُكتب لنا بيان إدانة خجول؟
أم أن الدم الغزّي صار أرخص من أن يُذكر، وأرواحنا أقل من أن يُحزن عليها الأمم؟
نحن لا نطلب دعمًا…
نحن نطلب فقط أن تُرفع أقدام القتلة عن رقابنا، أن يتوقف هذا الجوع المصنوع، أن يتوقف الصمت القاتل، أن يُعاد تعريف الإنسانية قبل أن تُمحى من القاموس.
في غزة، لا نحتاج كلمات، نحتاج وقف المجزرة.
في غزة، لا نموت فقط من القصف…
نموت من الجوع، من العجز، من التفرّج، من صمتكم.
وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟
الدم العربي وين؟ الشرف العربي وين؟
وينكم يا ملايين؟

