قصة: فرح وائل أكرم أبو سيدو
سفيرة الإنجازات، حين غابت كل السفارات.
في صباحٍ شتويّ قاتم ، من يوم الإثنين الموافق 22 يناير 2025 ، استفقتُ على صراخٍ ينهش جدران الحي . الناس يركضون ، الأقدام تلهث ، والقلوب ترتجف ، كان الصباح مشوهاً بالخوف ، لا يُشبه صباحات غزة المعتادة … تلك التي اعتادت رغم الحرب أن تُشرق .
المنطقة كلها تمّ إخلاؤها ، إلا نحن !!
كانت الأخبار تقول أن الجيش الإسرائيلي لم يُصدر أمراً بإخلائنا بعد . ظننت لوهلةٍ أننا سننجو ، أن العاصفة قد تمر من حولنا دون أن تقتلعنا ؛ لكن أصوات الجرافات والدبابات الإسرائيلية آخر الشارع كانت تنذر بالكارثة القادمة .
في الساعة التاسعة صباحاً ، خلت الشوارع من البشر ، لم يبقَ سوانا في الحي ، و بينما كنا نحاول اتخاذ قرار الهروب ، جاء خالي من أحد الأزقة الخلفية لبيتنا ، وأخذنا إلى بيتهم الذي يبعد عن منطقتنا شارعين فقط ، بقينا هناك ثلاثة أيام نتحسس كل لحظة ، ننتظر فيها سقوط كل شيء .
ثم جاء أمر الإخلاء الأخير لمنطقتهم بشكل مفاجيء ، لم نكن نعرف إلى أين نذهب .
طريق المواصي مغلق ، طريق رفح مغلق ، والدبابات تحيط بكل وجهة . اضطررنا للهروب إلى مستشفى الأمل في خانيونس ، نركض في شارعٍ تحكمه القناصة ، ونتنفس الخوف مع كل خطوة نخطوها .
دخلنا المستشفى المنهك ، ظننا أننا بأمان ، لكن ما لبث أن طوّقتنا القوات من كل جهة
حوصرنا هناك 13 يوماً بلا كهرباء ، بلا طعام كافٍ ، بلا مياه أو تدفئة … البرد كان يلسع الجلد ، واليأس يحاول أن يتسلل إلى الروح .
حتى جاء 5 فبراير 2024 ، جاء الأمر الصادم : إخلاء المستشفى قسراً خلال نصف ساعة!!!
أكثر من 13 ألف نازح غادروا دفعة واحدة ، في مشهدٍ و كأنه يوم الحشر ، طلبوا منا المرور في ممر وحيد ، محاط بأكثر من 200 دبابة ، وقناصين في كل مكان ، وحُفر عميقة و طريق وعرة برمال مبللة من المطر .
أخبرونا أن الصليب الأحمر كمؤسسة دولية سيرافقنا و يمنحنا بعد الله الأمان و الوصول بسلامة ، لكنه لم يفعل ذلك .
بعد أول ربع ساعة ، أوقفونا ، صوت الضابط الإسرائيلي ينادي عبر الميكروفون ، حين الصمت لنستمع ماذا يقول ؟!
: الرجال إلى “أعلى التلة” ، النساء و الأطفال أقل من 15 عام انزلوا أسفل الساتر الرملي جوار اكثر من 500 جندي مسلح و قناصين ، كنت مع والدي ، أتمسك به وكأنني أتشبث بالحياة ذاتها ، ثم فصلونا .
أجبروني على ترك يده ، ونزلت ألحق أمي و إخوتي إلى جهة النساء .
مررنا بجانب الجنود ، الأسلحة مُصوبة عند رؤوسنا ، والكلاب تُطلق خلفنا لنهرب بعيداً عن مكان تواجد الجنود ، أحد الجنود صرخ علينا بعبارات مهينة ، وضحك بسخرية على حالنا … لكننا عبرنا البوابة الالكترونية و حاجز التفتيش .
في منتصف الطريق ، كنا ننتظر وصول أبي وأخوالي الأربعة ، لكن الصدمة كانت بحجم السماء : تم اعتقالهم .
توقف الزمن …. تشقّق قلبي ، و تفتت روحي ، و لم نكن نملك شيئاً سوى البكاء و الدعاء .
ثم جاء خبر آخر … قُصف منزلنا بالكامل ، و كأن المصيبة كانت بحاجة إلى شقيقة أخرى .
انتقلنا للعيش في خيمة على شاطئ البحر ، بلا كهرباء ، بلا إنترنت ، بلا سقف يُذكر ،بلا مياه شرب نظيفة ، بلا طعام ، بلا غاز ، بلا معدات و لا أدوات ، و بلا اغطية تحمينا من برد الشتاء ، و لكننا صمدنا .
دارت الأيام و بعد أربعة أشهر فقط ، وصلتني رسالة من جامعتي تطلب تحديث بياناتي و تسجيل الفصل الدراسي الجديد .
وقفت ، قلت لنفسي : “يا فرح ، قومي و لا تدعي الظروف توقف طريقك ” وسجلت ، ودرست و تخرجت.
لم أكتفِ بذلك…. بجانب دراستي كنت قد سعيت و سعيت حتى حصلت على رخصة مزاولة مهنة التدريب ، وأنشأت أكاديمية فرح التدريبية ، أول منصة إلكترونية تجمع بين الصحة و التنمية البشرية في زمن النزوح و الحصار .
ثم وجدت شغفي في الكتابة ، فكتبت ثمانية كتب متنوعة ، وحصلت على عضوية رسمية ككاتبة وأديبة في منتدى سلاطين الكلمة و مجلة نور الثقافية و كتبت عدة مقالات و تم نشرها في موقع القلم الفلسطيني ، كما و ظهرت في برامج إذاعية و تلفزيونية لأروي حكايتي ، ليس من باب الشكوى ، بل من باب الإلهام و لأكون نموذج ملهم لقصة تحدي و صمود .
أسست أول مبادرة رقمية صيدلانية في فلسطين “إصرار طالب صيدلاني” ، لتدريب أكثر من 300 طالب وطالبة ، وأطلقت أول مسابقة بحثية طبية في غزة رغم كل الحصار ، وكل الظلام ، وكل القصف .
كل هذا فعلته ، وأنا أعيش بين انقطاع الكهرباء ، و ضعف الانترنت ، و فقدان الأب ، وهدم المنزل .
لكنني أردت أن أُثبت لنفسي ، و للعالم ، و لأبي داخل السجن … أن ابنته أصبحت شيئاً يُفتخر به و تسير على خطاه .
لم يمنحني أحد لقب “سفيرة الإنجازات”… أنا من اخترته ، أنا من منحت نفسي هذا الوسام ، إيماناً بأن الأحلام لا تُهدم ، حتى و لو سقطت فوقها ألف قذيفة ، و أن القهر لا يصنع العجز ، بل يولّد التصميم .