بقلم: أ. وسيم فارس الغندور
محامٍ ومهتم بالشأن الفلسطيني
مقدمة: بين خطابات السلام وصرخات الأرض.
قطاع غزة، الذي يُشبه جُرحاً مفتوحاً في جسد الشرق الأوسط، يُختصر فيه صراعٌ وجودي بين حقوق شعبٍ مُحاصر ومخاوف أمنية لدولةٍ تُحاصر. على مدار عقود، تكررت الوعود الدولية بتحقيق “سلامٍ عادل”، لكنها تحطمت أمام واقعٍ مرير: حروبٌ متتالية، وحصارٌ خانق، وانقسامٌ فلسطيني، وتواطؤٌ دولي. العنوان الأبرز اليوم ليس غياب الحلول، بل عدم الاستعداد لدفع ثمنها. فكيف تتعامل الإرادة الدولية مع هذه المعادلة المستحيلة؟
الإرادة الدولية: بين الخطابات الرنّانة والمصالح المُتعثرة.
رغم ترديد المجتمع الدولي شعاراتٍ مثل “حل الدولتين” و”حقوق الفلسطينيين”، تظل الخطوات الفعلية نحو السلام أشبه بمسرحيةٍ بلا نهاية. تُظهر ذلك في:
1. الفيتو المُزدوج:
تستخدم دول كبرى، مثل الولايات المتحدة، حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لحماية إسرائيل من أي قراراتٍ دولية ملزمة، بينما تتبنى دولٌ أخرى خطاباً داعماً للفلسطينيين دون فعلٍ ملموس.
2. المبادرات المُعلَّقة:
مبادرات مثل “الشرق الأوسط الجديد” أو “صفقة القرن” باءت بالفشل لأنها تجاهلت الحقوق الأساسية للفلسطينيين، كمصير القدس وحق العودة.
3. الدعم المالي المشروط:
تُقدّم دول الاتحاد الأوروبي ودول عربية مساعداتٍ إنسانية لغزة، لكنها ترفض ضغط إسرائيل لرفع الحصار بشكلٍ كامل، خوفاً من ردود فعلٍ سياسية داخلية.

الدبلوماسية الدولية
هنا، يصبح “السلام” مجرد ورقة تُلوّح بها الدبلوماسية الدولية، بينما تتحكم المصالح الجيوسياسية في مصير مليوني إنسان.
الواقع المرير: عندما يصبح البشر رهائن الجغرافيا!
في الجانب الآخر، يعيش سكان غزة تحت وطأة واقعٍ يُشبه الجحيم:
1. حصارٌ يخنق الأحلام:
منذ 2007، يُحاصر القطاع براً وبحراً وجواً. 97% من مياهه غير صالحة للشرب، و45% من شبابه عاطلون عن العمل (وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة).
2. حروبٌ تطحن البقية الباقية:
خلال 15 عاماً، شهد القطاع 4 حروب كبرى دمّرت 60% من بنيته التحتية، وأعادته إلى عصر ما قبل الصناعة.
3. انقسامٌ فلسطيني يُعمّق الأزمة:
الانشقاق بين فتح وحماس حوّل غزة إلى كيانٍ معزول حتى عن الضفة الغربية، مما أضعف المطالب الفلسطينية الموحدة.
هذا الواقع ليس نتاج صدفة، بل هو ثمنٌ تدفعه غزة يومياً بسبب غياب إرادة حقيقية لإنهاء الاحتلال وبناء دولة فلسطينية ذات سيادة.
الثمن المُعلّق: ما الذي يمنع دفعه؟
السلام الحقيقي يتطلب شجاعةً في اتخاذ قراراتٍ مؤلمة من جميع الأطراف:
1. إسرائيل والتنازل عن “الأمن المطلق”:
يتطلب السلام إنهاء الاحتلال تدريجياً، ورفع الحصار، والاعتراف بحق الفلسطينيين في دولةٍ عاصمتها القدس الشرقية. لكن الأحزاب الإسرائيلية اليمنية ترفض ذلك، وتصرّ على ربط الأمن بالسيطرة العسكرية.
2. الفصائل الفلسطينية وتجاوز سلاح المقاومة:
لا يمكن تحقيق سلامٍ دائم دون تحويل المقاومة المسلحة إلى كفاحٍ سياسي وقانوني دولي، لكن حماس تُصرّ على أن السلاح هو الضمان الوحيد لعدم إقصائها من المعادلة.
3. المجتمع الدولي والكفّ عن الازدواجية:
يدين العالم “عنف الاحتلال” لكنه لا يفرض عقوبات على إسرائيل، ويطالب الفلسطينيين بـ”نبذ العنف” دون ضماناتٍ بإنهاء معاناتهم.
هل من بصيص أمل؟ دروس من التاريخ…
التاريخ يثبت أن السلام ممكن عندما تكون التكلفة أقل من ثمن الحرب:
– اتفاقية كامب ديفيد (1979):
نجحت مصر وإسرائيل في تحقيق سلامٍ كلف الجانبين تنازلاتٍ كبيرة (مثل انسحاب إسرائيل من سيناء)، لكنه أوقف دورة العنف.
– اتفاقيات أوسلو (1993):
رغم فشلها لاحقاً، إلا أنها أظهرت أن الاعتراف المتبادل ممكن إذا وُجدت إرادة سياسية.
– تجربة جنوب إفريقيا:
أثبتت أن المصالحة حتى بعد عقود من الفصل العنصري ممكنة عندما يُقرّ الطرف القوي بجرائمه.
الخلاصة: السلام ليس خياراً… بل ضرورة وجودية!
الثمن الحقيقي لسلام غزة لا يُقاس بالمال أو التنازلات السياسية فقط، بل بالاعتراف بأن استمرار الصراع يُهدد القيم الإنسانية جمعاء. فالأرض التي شهدت مولد الحضارات لا تستحق أن تكون مقبرةً للضمير العالمي.
اليوم، يُحتّم الواقع المرير على الجميع الاختيار: إما دفع ثمن السلام العادل، أو الاستمرار في دفع فاتورة الحرب التي لا يُسددها إلا الأبرياء.
خاتمة:
غزة ليست مجرد مكانٍ على الخريطة، بل هي مرآة تعكس أخلاقيات العصر. فإذا كان العالم عاجزاً عن إنقاذ طفلٍ يولد تحت القصف، أو شيخٍ يموت بسبب نقص الدواء، فكيف يُبرر تقدمه التكنولوجي أو تفوقه الأخلاقي المزعوم؟ السؤال الأكبر ليس “كيف نُحقق السلام؟”، بل “هل نستحق السلام أصلاً؟”.