بقلم: د.فرح وائل أكرم أبو سيدو
صيدلانية ومدربة صحة.
في غزة، حيث تختلط الحياة بالموت، والصبر بالألم، أصبح الحديث عن الصحة أمرًا يتجاوز الترف أو الرفاهية، ليصبح نوعًا من البقاء، المقاومة، وإثبات الوجود.
في مدينتنا المحاصرة، لم يعد الدواء متاحًا كما ينبغي، ولا الغذاء وفيرًا كما يجب. ومع ذلك، نحن هنا… نحاول أن نحيا، نحمي أجسادنا مما تبقى، ونمنح أرواحنا شيئًا من الطمأنينة، وسط عاصفة لا تهدأ.
الصحة ليست حكرًا على المقتدرين… بل حق لكل إنسان!
حين نتحدث عن التغذية الصحية، لا نقصد الموائد المليئة، ولا الأطعمة المستوردة، ولا المكمّلات الغالية الثمن.
نتحدث عن الوعي… عن كيفية التعامل مع القليل بطريقة تمنحنا القوة، لا الضعف.
في غزة، لا بصل، لا ثوم، لا زيت زيتون…
لكن لا تزال هناك نفوس تبحث عن بصيص أمل.
نفوسٌ تؤمن بأن الاعتناء بالصحة يبدأ من أبسط ما هو ممكن، حتى وإن كان الخبز وحده هو الوجبة الوحيدة.
غذاؤك دواؤك… حتى في الفقر!
قد لا تملك الكثير من الطعام، ولكن يمكنك أن تملك المعرفة.
قد لا تجد أصنافًا متنوعة، ولكن يمكنك أن تنظم وجبتك، وتحسن توزيعها، وتمنح جسدك ما يستطيع أن يصمد به.
إن وجبة واحدة في اليوم، إن وُجهت بشكل صحيح، قد تساهم في تخفيف حدة الجوع، وتقوية المناعة، وتحسين التركيز والمزاج.
اجعل أولوياتك واضحة: الماء، ثم ما يمدك بالطاقة (كربوهيدرات بسيطة)، ثم ما يثبت جسدك (بروتين إن وُجد، ولو قليلًا).
لا تأكل بسرعة. امضغ جيدًا، حتى لو كان الطعام بسيطًا، فالهضم الجيد يبدأ من الفم.
لا تُسرف في الشاي أو القهوة على حساب الماء… الماء في هذه الظروف أثمن دواء.

الإنهيار التام للصحة في غزة!
التغذية النفسية قبل التغذية الجسدية!
في ظل الحرب، لا يصاب الجسد وحده… بل تنكسر النفس، وتذبل الروح.
وأنت كإنسان محاصر، عليك أن تعي أن الكلمات التي تقولها لنفسك، والأفكار التي تملأ بها رأسك، هي جزء من غذائك اليومي.
نَفَسك دواؤك. حديثك لنفسك طعام. والمحيطون بك إمّا سُمّ أو شفاء.
اعتنِ بما يدخل إلى ذهنك، كما تعتني بما يدخل إلى معدتك.
رسالة لكل فرد في غزة!
ربما لا تملك رفاهية الاختيار، لكنك تملك قوة القرار.
القرار بأن تحب نفسك رغم الألم.
بأن تعتني بجسدك حتى لو لم تأكل إلا القليل.
القرار بأن تحيا، لا فقط أن تنجو.
غذاؤك دواؤك… ليس لأنك تملك كل شيء، بل لأنك ما زلت تؤمن أنك تستحق أن تكون بخير، حتى في أسوأ الظروف.
نحن لا نحتاج إلى غذاء فاخر، بل إلى وعي صادق.
لا نحتاج إلى وصفات معقدة، بل إلى ضمير يهمس فينا: “لا تترك نفسك تسقط أكثر، تمسّك بما تبقى.”
في غزة… حتى الصحة مقاومة!</span>
حين تمنح جسدك فرصة للبقاء، رغم كل شيء،
حين تختار أن تشرب الماء بدلاً من الاستسلام للجفاف،
حين تنظّم نومك رغم أصوات القصف،
فأنت تقاوم… بطريقة صامتة، ولكنها عظيمة.
أنا أكتب إليكم لا كمتفرجة، بل كابنة لهذا المكان.
كصيدلانية فقدت كثيرًا من العلاجات، لكنها لم تفقد إيمانها بأن المعرفة قوة.
وكمدرّبة للصحة، لم تعد توزع خططًا مثالية، بل تبحث مع الناس عن أبسط ما يمكن فعله… في أصعب وقت.
غذاؤك دواؤك، نعم، ولكن: وعيك، صمودك، تنظيمك… هو الدواء الأقوى.
كن رحيمًا بنفسك، وامنح جسدك ما يستطيع أن يقاوم به.
لا تيأس، فكل لقمة تُؤكل بوعي، هي خطوة نحو الشفاء، نحو الاستمرار، نحو الحياة.