بقلم: أ. نضال الخليل
كاتب صحفي
تدخل غزة على حافة الكلام كما لو أنّ الكلام ضائعٌ داخلها، وكأنّ المدينة نفسها تُخرِج الأسماءَ واحدةً تلو الأخرى لتختبر إن كانت الأيامُ ستبقى تحمل لها نفس الصدى. ليست صورة واحدة تُعطينا معنى الوجود هناك بل سلسلةُ صورٍ تتراكب:
امرأةٌ تمشي بثوبٍ ملوّنٍ بغبارٍ ليس من الأرض وحدها، طفلٌ يجرُّ قدميه كما يجرُّ ذاكرته، مبنىٌ أصبح حروفًا مترهّلة لا يمكن قراءتها إلا بالصبر.
هذه المشاهد لا تُصدَر كأخبار فحسب، بل تُصاغ كجملٍ طويلةٍ تبحث عن محلِّها في ذاكرة القارئ.
وخلال الأسابيع الأخيرة قلّصت الخرائطُ منسوبَها إلى خطوطٍ ضيّقة ـ أكثر من ربع مليون إنسان نزحوا من مدينة غزة في موجةٍ جعلت الشوارع سجلاتٍ لرحلاتٍ لا تنتهي، والملاجئ صارت صفحاتٍ مشوّهة تُذكّر أن المكانَ الأوَّل لم يعد منزلاً.
المستشفيات تعمل بقدرةٍ شبحية ـ الأطباء يقاسمون الحزنَ أدواتِهم، والدواء يظهر في القصص متأخراً كزائرٍ لا يودّ أن يظلّ طويلًا.
الإعلام العربي هنا يتكلّم بصوتٍ مزدوج، أغلبه مُنهمكٌ في المشهد البشري:
يوثّق الصور، يرصّ الشهادات، يصرخ بعباراتٍ تبدو أحيانًا كخريفٍ شديدِ القسوة على اللغة.
وهذه اللغة ـ رغم حيويّتها ـ تُعاني أصلاً من فراغٍ تنفيذي، فالتوثيق وحده يتحوّلُ إلى طقسٍ إنشادي إن لم يتّجه نحو فعلٍ سياسيٍ ملموس.
هناك قنواتٌ تُحاول أن تُبقي الصورَ حيّةً وتُعيد تسميتها بأسماء الضحايا، ولكنّ الصور وحدها لا تفتح الممرّات.
أعودُ لأرى المدينة كما لو أنّها مقبرةٌ من القيَم المسروقة:
الهويّةُ تتبدّل تدريجياً، تُستبدَل صور الوجوه بملامحٍ مفكّكة، وفي هذا الانكسار النفسيّ تتحوّل اللحظات الصغيرة إلى طقوسٍ للبقاء ـ ضحكةٌ تختبئ في زاوية، رغيف يوضع بصمت، يدٌ تمسك بيدٍ لتحمل ألم المساء.
النفس الجماعي هنا يمشي على حدّ اللامكان، ينتظر حدثًا قد يغيّر مساره، لكنه لا يعرف حتى شكل التغيير.
الموقف السياسي العربي يبدو هشًّا، لا سيما عندما يُقرأ من زاوية المؤسسات الرسمية:
بياناتُ التنديد تتوالى، لكنّ التحوّلَ السياسيّ إلى فعلٍ قادمٍ من قدرةٍ إقليميةٍ مشتركة يبدو بعيد المنال.
مصرُ تُصرّ لفظياً على قواعد عدمِ الإخلاء، وتتحرّك دبلوماسيًا في أُطرٍ لا تتجاوز حدود التوازنات.
وقطرُ تستمرُّ في دوريّة الوساطة، والخليجُ يقدّم الموازنة بين الإدانة والمصالح.
الجامعة العربية تصدر كلماتٍ تُشبهُ الصدى بلا أذرع تنفيذية.
هذا الانقسام المؤسسي يجعلُ من الخطابات المسموعة قوةً رمزية أكثر منها قدرةً على تثبيتِ مفردةٍ إنسانيةٍ داخل المعادلةِ السياسية.
أما الشارع العربي ففيه نبضٌ لا يكفّ عن الإقدام: ميادين، هتافات، حملاتُ إغاثةٍ، قوافل تضامنٍ تحاول أن تُعرّيَ النفاق السياسي وتقول بصوتٍ علنيٍّ إنّ الضمير لا يكفيه بيانٌ.
الشتات والناشطون في أوروبا وأمريكا يخلطون بين السياسة والوجدان، يحرّكون شبكات الضغوط والمقاطعات، ويحاولون تحويل الموجة العاطفية إلى ضوءٍ يستديرُ نحو مكاتبِ القرار. لكن القمع الداخليّ في بعض البلدان وتراكمات الخيبة التاريخية يضعان الحواجزَ، فتظل الأفعال الجماهيرية رمزية إلى حين ربطها بإستراتيجية دبلوماسيةٍ واضحة.
ومن زاويةِ التوثيق هناك مشكلةٌ إضافية: الحصار المعلوماتي. انقطاعُ الاتصالات لا يمنع فقط وصولَ الصور، بل يمنع القدرة على خلقِ سردٍ ذاتيٍّ للحدث. حينما تُسكت الأصوات يبدأ الآخرُ في كتابة السردِ باسمها، وهنا يكمنُ الخطرُ الحقيقي: أن تُشكّل الروايةَ الدوليةُ بديلاً عن روايةِ الشهود.
وفي مواجهة هذا السيلّ من الفقدان، ثمة دعوةٌ للتدخّل القانوني والدبلوماسي. لا يكفي أن نُسجِّل الجريمة، بل يجب أن نُحوّل التسجيل إلى أدوات مساءلة.
فتحُ ممراتٍ إنسانيةٍ حقيقية، حمايةُ الطواقم الطبية، وتفعيلُ آليات التحقيق الدولية هي ليست مطالبٍ ثانوية، بل شقوقٌ في جدارٍ سيسقط إن لم نحاول تثبيتها.
قصص الناجين هنا تشبه أحرفًا تتشبّث بحافّة الدفتر:
امرأةٌ قالت إنّ كلّ صباحٍ هو امتحانٌ جديد، وطبيبٌ قال إنّ إنقاذَ طفلٍ صار أدنى أملٍ في بحرٍ من اليأس، والطفلُ الذي تناثرت كلماته كحجارةٍ يقول إنّ الشمس هنا ليست عاطفةً بل قسوةٌ مضاعفة.
هذه الشهادات ليست مجرّد بياناتٍ، هي أسسٌ يجب أن تُبنى عليها مساءلةٌ لا تُهزمها لغةُ الأمن.
أُغلق هذا النص، لا نريد لصورِ غزة أن تبقى أدواتَ تفعيلٍ عاطفي فحسب، بل نريدها قواعدَ لعملٍ سياسي وقانونيّ يُعيد للمدينةِ اسمها وحقّها في المستقبل. إنّ توثيقَ المآسي هو واجبنا، لكنّ تحويلَ التوثيقِ إلى مساءلةٍ فعلية هو امتحانُ إنسانيتنا.

