بقلم: أ. ياسمين هرموش
أديبة لبنانية
فلسطين ليست جغرافيا تسكن خارطة العالم، بل روح تسكن خارطة القلب.
هي المعنى الذي لا يُترجم، والوجع الذي لا يشفى، والرجاء الذي لا ينطفئ مهما امتدّ ليل العصور.
فيها تُولد اللغة من رماد الصبر، وتُزهِر الحروف رغم الحصار، كما تُزهر شجرة الزيتون في شقوق الصخور.
في فلسطين يتنفّس الحجر التاريخ، وتغدو الجدران دفاتر منقوشة بأسماء الشهداء، والهواء نفسه يمرّ عبر الذاكرة قبل أن يصل إلى الرئتين.
هناك، لا يشيخ الحلم، ولا يهرم الفجر، فكلّ طفلٍ يولد وفي عينيه نبوءة عودة، وكلّ أمٍّ تلد أبناءها وفي قلبها ألف صلاة.
هي الأرض التي علّمتنا أن الصبر لا يعني الاستسلام، وأن الانكسار ليس سوى لحظة يستريح فيها الضوء قبل أن ينهض من جديد.
فيها يتعلّم الناس كيف يبتسمون وهم يودّعون أحبابهم، وكيف يزرعون الورد في أطراف المقابر ليذكّروا الموت أن للحياة نكهة أخرى.
كلّ شبرٍ من ترابها يحفظ سرًّا، كلّ حجرٍ فيها له حكاية، وكلّ حكاية فيها وجع وعزّة.
في القدس، تتقاطع الأديان تحت ظلّ القباب، ويصعد الدعاء من كلّ قلبٍ إلى سماء واحدة، كأنّ الله أقرب هناك من أيّ مكانٍ آخر.
فلسطين ليست وطنًا للفلسطينيين وحدهم، بل وطنٌ للإنسانية كلّها.
هي المرآة التي نرى فيها أنفسنا على حقيقتها: هل ما زلنا نملك القدرة على الإيمان، على البكاء من أجل الحقّ، على الوقوف في وجه الظلم دون خوف؟
هي الأرض التي تُذكّرنا بأنّ الحرية ليست شعارًا، بل مسيرة طويلة من التعب والدموع، وأنّ العدالة لا تسكن المؤتمرات، بل في عيون الأطفال حين يحلمون بسماءٍ بلا طائرات.
يا فلسطين، يا وجع الأنبياء، يا أيقونة الوجود،
منكِ تعلّمنا أن لا نبيع الحلم وإن ضاق الأفق، وأنّ الوطن ليس قطعة أرضٍ نُقيم عليها، بل كرامةٌ نقيم بها.
منكِ تعلم الشعراء كيف تصير القصيدة طلقة، وكيف يتحوّل الدعاء إلى راية، وكيف يُصبح الحنين بيتًا من نورٍ في آخر الدرب.
ستبقين، مهما تغيّر الزمن وتواطأ العالم، نجمًا لا يُطفأ فوق ليل العالم.
ستبقين قصيدة الأرض الأولى، وحكاية الإنسان الأخيرة،

