بقلم: أ. صائب جمال أبو جزر
ماجستير قانون عام.
تخيّل معي وأنت تقرأ:
تعاني دولة الاحتلال من ضيق في عمقها الجغرافي، وهو أحد أبرز هواجسها في كل حروبها وصراعاتها السابقة. لذلك، كان تركيزها الدائم منصبًّا على ضرورة توسيع هذا العمق جغرافيًا، لما له من أهمية في تعزيز قدرتها على الصمود في حال اندلاع أي مواجهة.
فمع تطوّر أدوات الحرب، أصبح التركيز العسكري منصبًّا على الأسلحة النوعية بعيدة المدى، القادرة على الوصول إلى عمق أراضي العدو، مما يضاعف من خسائر الدول التي تفتقر إلى هذا “العمق” الحامي.
فماذا لو كانت الدولة تفتقد إلى عمق جغرافي حقيقي؟
ماذا لو كانت تعاني من تخوّف عددي وسكاني؟
وماذا لو كانت هذه الدولة… هي “إسرائيل”؟
للتفكير بشكل أشمل، لا بد من اعتبار هذه المقدمة جزءًا ضروريًا لإيصال الفكرة، أو بالأصح… لكشف “الخبث الذي يُحاك”.
فإذا نظرنا إلى دولة الاحتلال، نجد أنها تقع في قلب منطقة جغرافية تحيط بها دول تفوقها عددًا، وتملك عمقًا جغرافيًا يمكنه امتصاص وتحمل الضربات الصاروخية إلى حد ما، على عكس إسرائيل التي تفتقر لهذا العمق، مما يضعها في موقع هشّ عسكريًا واستراتيجيًا.
ولمّا كان من المستحيل منع دول الجوار من امتلاك أسلحة بعيدة المدى، حاولت إسرائيل تعطيل ذلك المسار عبر الضغط السياسي والتحالفات الإقليمية والدولية، لكنها لم تنجح بشكل كامل.
فقد بدأت تلك الدول بالفعل بتطوير ترساناتها العسكرية، من خلال التعاون مع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وفرنسا، وألمانيا، وغيرها.
في المقابل، عملت إسرائيل على إبرام اتفاقيات — بعضها معلن والآخر سري — تضمن لها الحفاظ على “التفوّق العسكري النوعي” في المنطقة، كركيزة ثابتة في سياساتها الأمنية والعسكرية.
وبعد فشلها في فرض سيطرة مطلقة على التسلح، اتجه تفكيرها إلى خيار بديل: توسيع النطاق الجغرافي، ولو بشكل غير مباشر. وكان ذلك ممكنًا من خلال محاولة السيطرة على أكبر قدر ممكن من المساحات المحيطة، بما يخدم عدة أهداف استراتيجية، أبرزها:
الأول: يدعم سردية الاحتلال في “أرض الميعاد” وحلمه التوسعي، ولأن هذا الطرح مُعلن، لم يعُد غريبًا على الأذهان.
أما الثاني، فهو غير مُعلن، لكنه قابل للاستنتاج من خلال التخوّف التاريخي لدولة الاحتلال من الفارق العددي الهائل مع محيطها العربي، وسعيها الدائم لضمان بقاء هذا الفارق ثابتًا لصالحها.
كما يتجلى هذا الخوف أيضًا في ضيق عمقها الجغرافي، ولهذا يواصل الاحتلال الصهيوني سياساته الاستيطانية التوسعية في الضفة الغربية والأراضي المحتلة.
ولأن السيطرة هناك باتت شبه محسومة لصالحه، ومع ازدياد أطماعه التوسعية، برز احتمال نقل هذا التوسع إلى قطاع غزة.
نعم، غزة… التي إذا نجح الاحتلال في السيطرة عليها، فسيكون قد تخلّص من “كابوس المقاومة الغزية”، تلك المقاومة التي حاول مرارًا نزع صفة النضال عنها وتحويلها إلى جماعات تُصنّف كإرهابية.
أما الخطورة الحقيقية، فتكمن في ما هو آتٍ:
فبسط السيطرة على غزة لن يكون مجرد نصر عسكري، بل مكسب استراتيجي يُوسّع عمق إسرائيل الجغرافي، ما من شأنه أن يخفّف من عبء الصراع الوجودي الذي تُعانيه بسبب هشاشة عمقها الحالي.
ففي حال افترضنا اندلاع حرب بين دولة الاحتلال والدول العربية المجاورة، فإن جميع نيران تلك الدول ستكون موجّهة نحو العمق الجغرافي الضيق للاحتلال.
وهذا هو السيناريو الطبيعي!
لكن، في حال نجحت دولة الاحتلال في السيطرة على قطاع غزة وما تبقى من أراضي الضفة الغربية، فإنها بذلك تكون قد ضاعفت من مساحتها الجغرافية. ومع هذا التوسع، سيعمد الاحتلال إلى تحويل غزة، وما يمكن السيطرة عليه من الأراضي، إلى ثكنات ومواقع عسكرية تشكّل خط الدفاع الأول في مواجهة أي هجوم خارجي.
وبذلك، فإن كثافة النيران التي كانت ستُوجّه مباشرة إلى العمق الإسرائيلي، ستجد أمامها حواجز عسكرية يجب اختراقها أولًا، ما يخفّف الضغط عن الداخل ويمنح الاحتلال وقتًا ومساحة للمواجهة.
أي أن غزة – بعد تهجير أهلها – لن تتحوّل إلى “سنغافورة الشرق” كما يُروّج، ولا إلى منطقة اقتصادية استثمارية اشتراها ترامب، بل إلى قاعدة عسكرية ضخمة بيد إسرائيل، وبالتبعية ستكون مركزًا استراتيجيًا لقوة أمريكية عسكرية مهولة في قلب المنطقة!
وبذلك، يكون الاحتلال قد حقق أحد أحلامه الكبرى: توسيع الرقعة الجغرافية، والسيطرة الكاملة على فلسطين، وطرد سكانها الأصليين. كما يكون قد وسّع عمقه الجغرافي، ليشكّل ما يشبه “خط بارليف” جديدًا، في مواجهة مصر، في حال نشوب حرب أو اندلاع صراع مستقبلي محتمل.
لماذا أقول هذا؟
لأنه من غير المنطقي أن يُحشد ما يقارب من 150 الى 200 ألف جندي من جيش الاحتلال — أي ما يعادل اكثر من ثلثي قوته العسكرية — في غزة المدمرة، لمواجهة قرابة 2000 مقاوم فلسطيني فقط!
فلو وسّعنا زاوية النظر قليلًا، سنجد أن هناك شيئًا يُحاك في الخفاء، وأن الأمر يتجاوز غزة والمقاومة فيها.
وما يُحاك احد نتائجه أو اهدافه:
زيادة العبء على الجيش المصري بشكل مضاعفًا — في الدفاع والهجوم — ذلك في حال اندلاع الحرب، لأنه سيتعيّن عليه التعامل مع جبهة جديدة، ومواقع عسكرية معادية في مناطق لم تكن ضمن الحسابات الاستراتيجية التقليدية.
وبذلك يكون الاحتلال قد نجح أيضًا في تهيئة جنوده للقتال ضمن بيئة استراتيجية جديدة، تتماشى مع طموحاته التوسعية، وتخدم رؤيته في إدارة الصراع بأسلوب مختلف، وعلى أرض أكثر اتساعًا، مما يخفف عبئ حماية العمق المكتظ بالسكان.
ذلك السؤال ينبغي أن يُطرح بجدية، في ظل كل ما يجري على الأرض من تهجير ممنهج، وتدمير شامل، وفراغ سكاني مقصود. فربما لم تكن الغاية إنهاء المقاومة فقط، بل تهيئة الأرض لتصبح نقطة ارتكاز عسكرية استراتيجية، تُستخدم في حروب قادمة أو لفرض واقع جديد يخدم مشروع الاحتلال طويل المدى.

