بقلم: د. أحمد علي حماد
شاعر مصري، دكتوراه العلوم الحيوية
في هذا الزمن، القاسي، حيث تُختبر الأمم لا بالشعارات بل بالمواقف، يظهر جليّاً أن العرب والمسلمين اليوم أمام امتحان إلهي وأخلاقي لا سابق له. امتحان عنوانه: غزة.
غزة المحاصَرة، التي تقاوم الحصار والقتل والإبادة والمجاعة. غزة التي يموت فيها الأطفال جوعاً، وتُدفن فيها النساء تحت الركام، ويُقتل فيها الشيوخ على أبواب المساجد.
في هذا الامتحان، كان يُفترض أن تكون الأمة الإسلامية – وبالأخص العرب – في مقدمة الصفوف، رافعين راية النصرة، مانعين الظلم، صادحين بالحق. لكن الواقع جاء صادماً: صمتٌ ثقيل، تراجعٌ مهين، وغيابٌ فاضح عن مشهد النصرة.
لقد رسب العرب في هذا الامتحان. نعم، رسبوا حين تركوا غزة وحدها تواجه المجاعة والقتل، رسبوا حين اكتفوا بالمشاهدة من خلف الشاشات، رسبوا حين دفنوا رؤوسهم في الرمال. رسبوا في الاختبار الإلهي الذي جاء ليكشف معادن الشعوب.
والسنة الربانية واضحة لا لبس فيها: ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: 38]. وهذا ما يحدث أمام أعيننا اليوم. بينما صمت العرب، خرج الغرب. بينما غاب المسلمون، تكلم غير المسلمين. في لندن وواشنطن وباريس وبرلين، خرجت الحشود ترفع لافتات الحرية لغزة، وتصرخ في وجه الاحتلال. آلاف مؤمنين بالعدالة والحرية – لا يجمعهم مع غزة دين ولا عرق – لكنهم نجحوا في الامتحان الإنساني حيث فشلنا نحن.
إن المشهد مزلزل. الغرب الذي كنا نراه خصماً، صار أكثر إنسانية في الموقف من كثير من المسلمين. والذين يفترض أن يكونوا “أمة الشهادة على الناس”، صاروا هم موضع الشهادة والاتهام. لقد سقطت ورقة التوت، وكُشف المستور: صمت الملايين ليس حياداً، بل هو مشاركة في الجريمة، بصيغة أخرى.
إن اسم “الراسبون المستبدلون” ليس مجرد وصف، بل هو حكم قاسٍ يصدره التاريخ قبل أن يكتبه المؤرخون. فمن يخذل المظلومين يُستبدل. ومن يتقاعس عن نصرة الضعفاء يُستبدل. ومن يبيع صوته في سوق المصالح يُستبدل. الاستبدال ليس احتمالاً، بل حتمية قرآنية وسنّة كونية.
المفارقة المؤلمة أن الذين لا يعرفون عن الإسلام شيئاً وقفوا مع قيمه الجوهرية: نصرة المظلوم، مقاومة الظلم، رفض الإبادة. بينما الذين يتلون القرآن آناء الليل وأطراف النهار، تركوا آياته خلف ظهورهم، وكأنها لم تُنزَّل عليهم.
غزة لم تفضح الاحتلال فقط. الاحتلال مكشوف بجرائمه، لا يحتاج إلى دليل. غزة فضحتنا نحن. فضحت صمتنا، جمودنا، ضعفنا، تفرّقنا، وتخاذلنا. فضحت ملايين العرب الذين تابعوا المجاعة كما يتابعون مسلسلاً في رمضان، بلا وجع ولا فعل. فضحت أنظمتنا التي تحوّلت من موقع النصرة إلى موقع التبرير والخذلان.
وإذا كان الغرب اليوم يملأ الشوارع نصرة لغزة، فإن ذلك لا يعني براءته من سياسات حكوماته، لكنه يثبت أن الضمير الإنساني لا يُقاس بجغرافيا أو ديانة، بل بالفعل والموقف.
إن الأمة اليوم أمام خيارين: إما أن تفيق من غفلتها، وتدرك أن التاريخ لا يرحم من يتخاذل، أو أن تستسلم لمصيرها كـ”راسبين مستبدَلين”، يخرجون من مسرح التاريخ كما خرجت أمم قبلهم، حين خانت الرسالة وأهملت الواجب.
غزة لا تنتظر منا دموعاً ولا شعارات. تنتظر فعلاً، دعماً، نصرة حقيقية، بكل وسيلة ممكنة. تنتظر أن نثبت أننا لسنا “الراسبين” في امتحان الأخلاق. تنتظر أن نستعيد دورنا قبل أن يكتب الله علينا حكم الاستبدال النهائي.
إنه نداء لا لبس فيه: إما أن ننجح في الاختبار، أو نستبدل بغيرنا.
إنها لحظة محاسبة تاريخية؛ إمّا أن نستعيد كرامتنا ومسؤوليتنا، أو نستحق أن نستبدل بغيرنا. لأن الله لا ينظر إلى الشعارات الفارغة، بل إلى العمل والتضحية والمواقف الصادقة. وما يحدث اليوم يثبت أنّ أمة بلا فعل، أمة بلا قيمة.
لقد آن الأوان أن نخرج من صمتنا، أن نرتقي فوق خلافاتنا ومصالحنا الضيقة، وأن نستعيد معنى الأخوة الإسلامية والإنسانية. وإلا فإن التاريخ سيكتب أن العرب صمتوا، بينما تكلم الآخرون؛ وأن المسلمين تراجعوا، بينما حمل غيرهم راية الحق

