أ.محمد زياد حسونة
محامي ومستشار قانوني وناشط مجتمعي.
في غزة اليوم ساد صمت مريع تجاوز حدود الحرب نفسها، ليصل إلى قلب العدالة التي كانت في يوم ما منارات تضيء دروب الناس.
لم يعد للقانون صوت، ولم تعد المحاكم تفتح أبوابها ولم يعد القضاة يجلسون على منصاتهم المقدسة ليفصلوا بين الناس وينصفوا المظلومين… كل شيء انهار وتحطم تحت أنقاض وركامات الحرب، وكأن العدالة نفسها سقطت مع المباني.
كانت العدالة في غزة تقوم على ثلاثة ضلوع رئيسية لا يمكن الاستغناء عنها: القضاة الذين يصدرون الأحكام العادلة، والمحامون الذين يدافعون عن حقوق الأفراد وينقلون صوتهم، ووكلاء النيابة الذين يمثلون صوت العدالة في مواجهة الظلم والجريمة مثلث العدالة القدسي الذي دمرته الحرب .. هؤلاء الأركان الثلاثة يشكلون معا بنيان العدالة الذي حفظ حقوق الناس ونظم الحياة المدنية .. لكن اليوم أصبح القضاة بلا منصة يحكمون منها، والمحامون بلا مكاتب يعملون منها في اطار دفاعهم عن العدالة، ووكلاء النيابة بلا ملفات يُتابعونها… توقفوا عن أداء مهامهم المقدسة ليس من اختيارهم، بل لأن الحرب دمرت مقارهم، ودفنت الملفات، وأغلقت كل أبواب العدالة.
غابت الآليات التي تضمن تطبيق القانون وضاعت معاني كثيرة من قيم الحق والعدالة.
الاحتلال لم يكتف بالاستهداف المباشر لأرواح الناس بل اتجه لتدمير كل ما يشكل بنية الدولة وهاجم القضاء بكل وحشية .. قصف مقار المحاكم، عطل عمل المحامين ووكلاء النيابة، وأوقف النظام القضائي عن العمل ليحكم بالفوضى على كل شيء .. هذه الهجمات لم تكن عشوائية بل حملت هدف واضح وهو إبقاء غزة في فراغ من القانون لتصبح بلا نظام ولا مرجعية.
النتيجة كانت مأساوية بكل المقاييس .. فقدت غزة هيبتها كمدينة بقانون وتحولت الحقوق إلى حلم بعيد، والصراعات بدأت تتحول إلى نزاعات بلا حسم والظلم صار يمر دون محاسبة… المواطن الذي كان يطرق أبواب العدالة لطلب إنصافه أصبح اليوم بلا مكان يلجأ إليه .. بلا من يسمع شكواه، وبلا قانون يحميه.
في غزة، سقطت العدالة مرتين: أول مرة عندما تحولت مباني المحاكم إلى ركام وثاني مرة حين صمت العالم عن إعادة بناء أو دعم النظام القضائي.
لكن رغم هذا السواد، يبقى الأمل حيا وسط أنقاض المدينة فالغزيون رغم الجراح لا ينسون أن القانون هو ملاذ الكرامة وآخر حصون العدالة… يؤمنون أن العدالة مهما طال الغياب ستنهض من جديد، كما تنهض مدينتهم من بين الرماد كل مرة مستمدة قوتها من إيمان شعبها بأن الحق لا يموت.

