بقلم: م. إيهاب الدغمة
المقدمة:
في المشهد الفلسطيني، يتردد صدى دعوات المصالحة وتوحيد الصفوف، لكنها في كثير من الأحيان لا تتجاوز كونها شعارات جوفاء، تُستخدم كأدوات ضغط من قبل أطراف منحازة، تدّعي البحث عن الوحدة بينما تمارس الإقصاء. هناك من جعلوا أقلامهم منابر لهذه الدعوات، غير أنهم يمارسون ازدواجية مقيتة؛ يطالبون بالمصالحة ولكن وفق شروطهم، بحيث يكون التوحيد هو استسلام الطرف الآخر، والمصالحة هي تسليم القرار الفلسطيني لجهة دون أخرى. هؤلاء لا يدركون أنهم ليسوا دعاة وحدة، بل صنّاع انقسامٍ متجدد، يورثونه للأجيال القادمة.
ازدواجية الخطاب لدى بعض المثقفين.
في حين أن المثقف الحقيقي هو ضمير الأمة وبوصلتها، فإن البعض يخلط بين النقد البناء والتحريض الأعمى، بين الإصلاح الحقيقي وتعزيز الانقسام. يرفعون شعارات الوحدة بينما يسخّرون كتاباتهم لخدمة طرف بعينه، يحملون الآخر مسؤولية كل ما جرى، وينظرون إلى أخطائه بعدسة مكبّرة، بينما يغضّون الطرف عن الكوارث التي يرتكبها الطرف الذي ينتمون إليه.
إن هذه الازدواجية تتجلى بوضوح في خطاباتهم التي تخلو من التوازن والموضوعية، فلا تجد في كتاباتهم إقرارًا بفضل الآخر، ولا محاولة لفهمه، بل خطابًا مشحونًا بالتحريض، يوهم القارئ أن الحق مطلقٌ لطرف دون الآخر. وكأنهم يطبقون قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 11-12).
كيف يعمّق هؤلاء الانقسام؟
بدلًا من البحث عن نقاط الالتقاء، وتقديم خطاب تصالحي متوازن، يكرّس هؤلاء الكتّاب الانقسام بأسلوبهم، فيصبح النقد أداة للشيطنة بدلاً من الإصلاح، والمعارضة مجرّد وسيلة للإلغاء بدلاً من التصويب. تراهم يبررون كل فعل يصدر عن جماعتهم، مهما كان مجحفًا، بينما لا يمنحون الطرف الآخر حتى فرصة الدفاع عن نفسه. وهذا النوع من الخطاب لا يصنع الوحدة، بل يعمّق الشرخ بين الفلسطينيين.
إنَّ الوحدة الحقيقية لا تعني أن يخضع طرف لطرف، بل أن نجتمع على المشترك ونتفق على القواسم التي تخدم القضية الفلسطينية. ولكن، كيف يتحقق ذلك إذا كان كل طرف يرى نفسه منزّهًا عن الخطأ، والآخر مجرد مخطئ لا يُرجى منه خير؟
آداب الاختلاف السياسي والمعارضة.
إن الاختلاف السياسي والمعارضة أمران ضروريان في أي مجتمع يسعى إلى التقدم، لكن المشكلة ليست في المعارضة ذاتها، بل في كيفية ممارستها. الهدف الحقيقي من المعارضة والانتقاد هو جعل المسؤولين تحت الرقابة المستمرة وتحفيزهم على أداء دورهم بأفضل شكل ممكن، وليس تنزيههم عن الخطأ كأنهم ملائكة لا يخطئون، أو شيطنتهم وجعلهم رمزًا للفساد وكأنهم لم يقوموا بشيء صحيح في حياتهم.
المعارضة البناءة هي التي تعتمد على النقد الموضوعي الذي يُبرز الأخطاء بهدف إصلاحها، وليست تلك التي تُمارس كأداة لتصفية الحسابات السياسية. إنها وسيلة لتوجيه السياسات نحو الصالح العام، لا منصة لتعميق الكراهية والانقسام بين أفراد المجتمع. يجب على المثقفين أن يكونوا نموذجًا في ممارسة النقد الواعي لا التحريض الأعمى.
أولى خطوات التصحيح: الاعتراف بالخطأ.
لا يمكن لأمة أن تنهض ما لم يكن لديها الشجاعة للاعتراف بأخطائها. على كل مثقفٍ أن يسأل نفسه: هل أنا حقًا داعية وحدة أم أنني أُساهم في الانقسام دون أن أدري؟ هل أمارس النقد بحيادية، أم أنني أنحاز بشكل أعمى؟
أول خطوات العلاج هي الاعتراف بالمرض، والمشكلة هنا ليست في وجود اختلافات سياسية – فهذا طبيعي – بل في أننا نحول هذه الاختلافات إلى معارك تصفية لا تبقي ولا تذر. إنَّ المثقف الحقيقي لا يخشى مراجعة ذاته، ولا يكابر إن اكتشف أنه كان يسير في الاتجاه الخاطئ.
تحذير للقارئ: لا تنخدع بالأقلام المسمومة.
إلى القارئ الفلسطيني، انتبه من الأقلام التي تغريك بجمال طرحها وبلاغة أسلوبها، لكنها تدس لك السم في العسل. ليست كل المقالات التي تُكتب باسم الوحدة الوطنية تسعى إليها حقًا، بل إن بعضها يُستخدم لتكريس واقع الانقسام وتأبيده. لا تدع الكلمات البراقة تضللك، بل قِس الأمور بعقلك، ووازن بين الأقوال والأفعال.
ختامًا، إن لم نغيّر هذا النهج اليوم، وإن لم ننزه عقولنا عن هذا الإثم، فلنكن على الأقل صادقين مع أنفسنا، فلا نورث الأجيال القادمة هذا الإرث الثقيل من الانقسام. دعوهم يقررون مصيرهم بأنفسهم، ولا تطعنوا مستقبلهم بأقلامكم المسمومة.

الاقلام المسمومة
يقول الإمام الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
أيعقل أن نورث عيبنا لأبنائنا!