بقلم: أ. غادة محمد
كاتبة، وناشطة إعلامية
بين الركام والغبار، وفي ظل ذاكرة مثقلة بالقصف والحصار، تبدأ غزة فصلًا جديدًا من حكايتها الطويلة مع الصمود. انتهت الحرب، لكن آثارها لم تنتهِ بعد؛ فكل حجر مهدّم يروي قصة، وكل شارع محروق يحتفظ بصدى صرخة، وكل بيت مهدوم يختزن حلمًا مؤجلًا بالحياة. ومع ذلك، تقف غزة اليوم أمام امتحان جديد: كيف ترسم مستقبلها بعد هذا الخراب؟
غزة اليوم ليست مجرد مساحة من الأرض المدمَّرة، بل رمزٌ لعلاقة الإنسان بالأمل حين يصبح الأمل ضرورة وجود.
من بين الركام، تُطلّ وجوه الأطفال تحمل دفاتر محروقة وابتسامات صغيرة كأنها إعلان حياة، وتعود النساء إلى تنظيف البيوت المهدّمة وكأنهن يزرعن في التراب بذور الغد.
هنا تبدأ قصة النهضة، لا بالمال وحده، بل بالإرادة التي لا تُقهر.
ففي كل ركن من غزة، تُكتب الآن سطور جديدة:
مهندسون يرسمون خرائط الإعمار، وأطباء يرمّمون ما استطاعوا من جراح الجسد، وشباب يُعيدون للشارع صوته وللأمل لونه. إنها مرحلة إعادة تعريف الذات قبل إعادة بناء الجدران.
سياسيا اليوم تقف غزة أمام لحظة فارقة.
فالمعادلات تغيّرت، والملفات القديمة لم تعد تصلح لقراءة المشهد الجديد.
العالم يراقب، والدبلوماسية تتكلم بلغة الأرقام والمساعدات، بينما يتحدث الشارع الغزي بلغة أخرى: لغة الكرامة والإصرار.
إن إعادة الإعمار ليست مشروعًا هندسيًا فحسب، بل امتحانًا أخلاقيًا للعالم، واختبارًا حقيقيًا لمدى صدق الشعارات التي تتغنّى بالإنسانية والعدالة.
لكن غزة رغم الجراح لا تنتظر المنح، ولا تبني مستقبلها على وعودٍ دولية مؤجلة.
فهي تعرف أن الطريق طويل، وأن النهضة لا تأتي من الخارج، بل من إيمان الناس بأنهم يستحقون غدًا أفضل.
ومن رحم هذا الوعي الجمعي، تولد مشاريع صغيرة، ومبادرات شبابية، وكتابات فكرية، تشكّل جميعها ملامح غزة الجديدة: مدينة تعرف كيف تُقاتل من أجل الحياة بقدر ما قاتلت من أجل البقاء في حربها الأخيرة .
وهكذا، من بين الركام، لن تنهض غزة فحسب، بل تنهض معهافكرة الحرية ذاتها حرية الإنسان في أن يحيا، ويحلم، ويبني، رغم كل شيء .

