بقلم: أ. نضال الخليل
كاتب صحفي
أبدأُ بما نُحشَرُ به كالرموز في سجلاتٍ لا تبكي:
76,700 شهيدًا + 20,000 طفلٍ + 12,500 امرأة
9,500 مفقودًا + 39,000 أسرةً محيتْ كأنّها لم تكن + 169,583 جريحًا — بينها عشراتُ آلافٍ تُقاسُ ببترٍ لا يُقاسُ عليه ثمنٌ
460 حالةً نتيجة المجاعةِ وسوءِ التغذيةِ منها 154 طفلاً ماتوا لأنّ العالمَ أخطأَ حساباته 56,320 يتيمًا 15,000 أرملة
ومعدلٌ يوميٌّ صار لَهُ رتابةُ صلاةٍ ميتة:
92 شهيدًا — 27 طفلاً — 14 امرأة — 42 أبًا وأمًّا — 53 مجزرة — 4 أسرٍ تمحى بالكامل — 8 أسرٍ تمحى ويبقى ناجٍ واحدٌ يحملُ وجهَ تاريخٍ ممزّقٍ.
أضعُ هذه الأرقامَ أمامَكم كمرآةٍ لا تحبّ الكذبَ لكن المرآةَ هنا تسرقُ الاسمَ وتُبقي العددَ:
تُعرضُ الوجوهُ كخلاياٍ في جدولٍ باردٍ فتغدو الحكايةُ حديثَ أرقامٍ لا تُخبرُ عن آهاتٍ أو عيونٍ أو رائحةِ الغبارِ على قميصِ طفلٍ ماتَ من شُظيةٍ أو جوعٍ
الأرقامُ لا تُنطقُ وأنتم تعلمتم الاستماعَ إليها كأنّها لغةُ الحقّ الوحيدةُ فبتلك العادةِ تُغسِلونَ أياديكم بكلماتٍ دبلوماسيةٍ رقيقةٍ وكأنّ الدمَ بحاجةٍ إلى شهادةٍ مكتوبةٍ بخطٍّ أنيقٍ قبل أن يُعَدّ جريمة
هل سألتمْ أنفسَكم
-
كيف تبدو السياسةُ حينَ تفقدُ اسمَها؟
السياسةُ التي لا تسألُ عن الاسمِ تتحوّلُ إلى محاسبةٍ بيروقراطيةٍ – نسبٌ ومعدلاتٌ و”إنجازاتٌ” تُعلّقُ مثلَ شاراتٍ على صدرِ جثةٍ
حين تُقاسُ الإنسانيةُ بمؤشراتٍ تُصبحُ الوجوهُ أرقامًا والخضوعُ عادةً والموتُ خبرًا عابرًا لا يُثيرُ النومَ الهادئَ في غرفِ النِعمة
هناك جرمٌ أقلُّ ما يُقالُ عنه إنهٌ شراكةٌ – جرمُ مَن يَفضِّلونَ التدرّجَ في الخنوعِ
ليس القاتلُ وحدهُ مسؤولاً من يصنعُ الحيزَ الذي يسمحُ للقاتلِ أن يعملَ بلا رادعٍ هم شركاءُ الجرمِ
الحصارُ المنظّمُ، التأخيرُ المتعمدُ في فتحِ ممراتِ الإغاثةِ، تحويلُ نداءٍ إنسانيٍّ إلى “إشكاليةٍ فنيةٍ” في غرفٍ مزدانةٍ بالراحةِ — كلُّ ذلك فعلٌ قاتلٌ آخر لا يقلّ تلقِّيًا عن رصاصةٍ تُفرَغُ من بندقيةٍ متهيّجةٍ
تقاريرُ الأممِ تقولُ إنّ المجاعةَ تنتشرُ- آلافُ أطفالٍ يُعالجونَ يوميًّا من سوءِ تغذيةٍ حادٍّ وبُنىً تحتيةٍ محطّمةٍ تُحجبُ عن الناسِ حقّهم في الحياة هذه حقائقٌ لا تُمحى بالتبريراتِ الراقيةِ ولا تُضمَدُ ببياناتٍ مؤتمراتيةٍ تُذاعُ لصناديقَ بلا روحٍ.
السؤالُ الأخلاقيُّ المُلحُّ ليس إحصاءً باردًا بل استدعاءٌ:
-
ماذا يفعلُ إنسانٌ حينَ يتحوّلُ الآخرُ إلى رقمٍ؟
الجوابُ المرّ: يعتادُ – وتُصبحُ خسارةُ طفلٍ لقطةً إخباريةً تمرُّ ولا توقِعُ الندمَ على جبينِ أحدٍ – تُصبِحُ أسرةٌ محيَّتٌ بالكاملٍ “إحصاءً” في تقريرٍ سنويٍّ ويستمرُّ صوتُ دبلوماسيٍّ يخفُفُ من وطأةِ الحكايةِ على رُؤوسِ مَن ينامونَ مرتاحينَ.
الخطيئةُ ليست بالدمِ وحدهِ بل في أن ترفضوا تسميةَ الموتِ اسمهُ أن تصنعوا من الصمتِ مقياسًا أخلاقيًّا وتعلّقوا الضمائرَ كلوحاتٍ في متحفِ التكتيك
صمتُكم يُنتجُ ثقافةَ حيادٍ تُحوّلُ الإرهابَ اليوميَّ إلى خبرٍ ثمَّ إلى ذاكرةٍ قصيرةٍ تُنسى — لكن الذاكرةَ الحقيقيةَ لا تُمحى
إن حاولتم إخفاءَ الوجوهِ وراءَ الأرقامِ فذاك السترُ سيفتحُ صفحاتٍ سوداءَ ستُسجَّلُ فيها أسماؤكم.
قِلّةٌ منكم قد تُحرّكُ ساكنًا وأقلُّهم من يُحيلُ الحركةَ إلى فعلٍ يوميٍّ ملموسٍ- إنقاذُ الأطفالِ من الجوعِ الآنَ فتحُ ممرّاتٍ إنسانيةٍ دونَ شروطٍ سياسيةٍ، ضغطٌ حقيقيٌّ لحمايةِ المدنيينَ لا كلماتٌ تلو كلماتٍ على المنابر إن أردتم أن تُدعونَ “ساسةً” فلتكن سياستُكم قادرةً على حمايةِ اسمِ الإنسانِ ووجودِه لا جسدِ مصالحِكم الضيّقِ.
ابدأوا بتسميةِ الضحاياِ بأسمائهمِ — لا بالأرقامِ — وابدأوا بفعلٍ إنسانيٍّ يوميٍّ يُعيدُ الحياةَ إلى ما تبقّى من مدينةٍ تكادُ تكونُ جثةً هكذا تُستردُّ السياسةُ من قبضتِ الخنوعِ وهكذا يعودُ الاسمُ من دفاترِ النسيانِ.

