د. أحمد على حماد
شاعر مصري، دكتوراه علوم حيوية
هذه قصة حقيقية، نكتبها لكي تعلم الإنسانية أن هناك أبطال من غزة ، من ذوي الإحتياجات الخاصة، والذين ظلموا أشد ظلم، تحت قهر و بطش الإحتلال الإسرائيلي معدوم القيم الأخلاقية والإنسانية ، والذي يقتل دون رحمة أو شفقة على طفل أو شيخ أو مريض.
فياليت الإنسانية في أرجاء الأرض تعلم و تدرك قدر المعاناة التى تعاني منها غزة وأهلها.
بل ليت المسلمين تنظر إلي أهل فلسطين بعين الأخوة التى يحتاجون إليها، والمساعدة والعون، وبالخصوص المحتاجين منهم إلي عون ، وهذا واجب، حق ، واقع ، يجب نصرته و مساعدته بدافع الإسلام الذي يجمع ولا يفرق.
وبطلنا اليوم يدعى أنور يحيى ، من خيرة الناس وأحسنهم خلقا و دينا، يضرب لنا مثلا في الصبر على البلاء ، و الرضا بقضاء الله تعالي في تسليم وحب.
كان الصباح في غزة يخرج متعبًا من رحم الليل، كأن الشمس تخجل من أن تشرق على مدينةٍ مثخنةٍ بالجراح.
وفي زاوية بيتٍ قديم، تفوح منه رائحة الملح والدواء، جلس أنور يحيى، رجل في الأربعين من عمره، لا يتحرك من جسده شيء سوى شفتيه وعينيه.
أصابته الشلل الرباعي منذ أكثر من عشرين عامًا، ثم جاء السرطان ليكمل ما بدأه القدر، ومع ذلك كان وجهه يفيض ببسمةٍ تشبه صلاة الصابرين.
كانت أمه العجوز، وهي في السبعين من عمرها، تمسح على جبينه وتقول:
“يا بني، كم أنت جميل حين ترضى… إن الله يحب الصابرين.”
كان الفقر رفيقه، والعجز يحيط به من كل الجهات، لكنه لم يعرف يومًا معنى اليأس.
كان قلبه عامرًا بحلمٍ صغير… أن يمتلك كرسيًّا متحركًا كهربائيًا يستطيع أن يخرج به إلى الشارع، يرى السماء عن قرب، يشم رائحة المطر، وينظر إلى الأطفال وهم يركضون.
كتب أنور إلى الجمعيات الخيرية، واتصل بالمتطوعين، وناشد الناس على صفحات التواصل، فكان الجواب دائمًا واحدًا:
“يا أنور، لا فائدة، لن تستطيع قيادته، فأنت لا تحرك أطرافك.”
فكان يبتسم بطمأنينة المؤمن ويقول:
“وإذا شاء الله أن أتحرك، من يمنعه؟ الله إذا قال كن، تكون الحياة كلها تحت أمره.”
مرت شهور من الانتظار، حتى طرق الباب ذات مساءٍ من أمسيات الحلم الطويل.
دخل ثلاثة من معارفه، يحملون شيئًا مغطى بقطعة قماشٍ زرقاء.
قال أحدهم ضاحكًا:
“أغمض عينيك يا أنور.”
قال:
“لماذا؟”
قالوا:
“أغمضها فقط، وسترى ما يفرحك.”
فأغمض عينيه، وفتح قلبه قبل جفنيه…
وحين رفعوا القماش، رأى أمامه كرسيًّا كهربائيًا جديدًا، لامعًا، كأنه نجمة من حديد.
تجمدت الدموع في عينيه، وارتجف صوته وهو يهمس:
“هذا هو؟… هذا حلمي؟ الحمد لله، الحمد لله!”
ضحك وبكى في اللحظة نفسها، كطفلٍ عثر على لعبةٍ ضاعت منه منذ سنين.
ومن شدة فرحته، كان ينام بجوار الكرسي، ينظر إليه قبل أن يغفو، ويستيقظ في الليل يتأكد أنه ما زال هناك.
قالت أمه له مازحةً:
“لو كان الكرسي امرأة، لتزوجتها!”
فضحك بصوتٍ خافت وقال:
“بل هو ابني الذي ولدته الأماني.”
لكن في غزة، الفرح لا يعيش طويلًا.
فجر ذلك اليوم المشؤوم، دوّى صوت الانفجارات، والناس تهرول مذعورةً في الأزقة.
صرخ الجيران:
“يا أنور، يجب أن تغادر، اليهود سيقصفون بعد دقائق!”
فقال برجاءٍ متقطع الأنفاس:
“لا تنسوا الكرسي… خذوه معي.”
قالوا:
“لا وقت لدينا!”
إلا أن شابًا شجاعًا من الحي، كان معروفًا بطيب قلبه، حمل أنور على كتفيه، وأمسك آخر بالكرسي الكهربائي، وبدأوا ينزلون الدرج بسرعةٍ وسط أصوات الصواريخ.
وما إن ابتعدوا أمتارًا قليلة حتى سقط صاروخ على البيت.
ارتفع الغبار، وارتجت الأرض، وتناثر الحديد والزجاج في الهواء.
نظر أنور إلى مكان بيته، وكان الكرسي مقلوبًا، محترقًا، محطمًا إلى قطعٍ صغيرة.
أحسّ وكأن قلبه تحطم معه.
مدّ بصره نحو الركام، ودموعه تتساقط كأنها اعتذار للعجز، وقال بصوتٍ مبحوحٍ متهدجٍ بالإيمان:
“الحمد لله… ما أخذ الله إلا ليعطيني أفضل منه في الجنة.”
نزح مع أمه إلى دير البلح، والسماء ما زالت تمطر نارًا، والدخان يلفّ المدينة ككفنٍ أسود.
ذلك الشاب الذي أنقذه، خرج بعدها إلى مركزٍ لتوزيع الطعام، تابعٍ للأمريكان والصهاينة، وما كان إلا فخًا للموت، ومن يومها لم يعد.
ومنذ ذلك اليوم، يجلس أنور في خيمته الممزقة، على فراشٍ رقيقٍ من الرمل، ينظر كل مساء إلى الأفق ويهمس:
“يا الله، لقد تحطم الكرسي، لكن الإيمان لم يتحطم.”
ثم يبتسم ابتسامةً تشبه النور، ويقول:
“اللهم احفظ أمي… واغفر لمن حملني من النار… واغفر لأمةٍ نسيت أنور.”
وتمتد نظراته إلى السماء، كأنه يرى هناك كرسيًا آخر، ليس من حديدٍ ولا بطارية، بل من نورٍ يحمله المَلَك إلى جنّةٍ لا قصف فيها ولا وجع.

