بقلم: أ. بسمة زهير أبو جبارة
كاتبة أدبية
النزوح ليس مجرد انتقال من بيت إلى بيت، ولا من شارع إلى شارع، ولا من مدينة إلى أخرى.
النزوح خلع قسريّ لجزء من روحك… اقتلاع مؤلم لذاكرتك من جذورها… جرح داخلي لا تلمّه الأيام، ولا ترمّمه المواساة.
هو أن تحزم سنينك في أكياس رخيصة…
أن تطوي ضحكاتك القديمة في قطعة قماش…
أن تخبئ صورتك العائلية في جيب قميصك، وكأنك تودّع وجهك الذي كان.
النزوح هو أن تُداري جرحًا لا ينزف دمًا، بل حنينًا.
هو أن تمشي وخلفك بيتك ينهار بصمت… تتخيّل جدرانه تبكي… نوافذه تلوّح لك… والحجارة تصرخ: “لا تتركني!”
هو أن تسمع في قلبك بكاء الجدران…
أن تستنشق آخر أنفاس المكان قبل أن توصد بابه خلفك…
ولا تدري إن كنت ستعود أم لا!
النزوح وجع لا يُرى.
هو أن تضع قلبك في صندوق، جنبًا إلى جنب مع ملابس أبنائك، ومعها ذكرياتهم…
أول لعبهم… رسوماتهم الطفولية… وملابسهم الصغيرة التي ضاقت عليهم، لكنها لم تضق على قلبك وما زلت تريد الاحتفاظ بها.
هو أن تُطاردك الضحكات التي كانت تعلو في فناء المنزل…
أن يطاردك صوت أمك وهي تناديك…
أن تبحث عن رائحة القهوة التي كانت تعبق في الزوايا…
فلا تجد إلا رائحة الدمار والموت والفقد في الطرقات!

نزوح… لا يشبه الحياة
أن تنظر في عيون أطفالك ولا تملك إجابة عن سؤالهم البريء: متى راح نرجع على البيت؟
فتكذب عليهم وتقول: قريبًا.
وأنت تعلم أن العودة قد لا تأتي أبدًا… وأن البيت قد يصير حطامًا… وأن الذاكرة وحدها التي ما زالت تحفظ شكله وروحه وصوته.
النزوح ليس رحلة مؤقتة، إنه لعنة أبدية.
لعنة أن تشعر بأنك غريب في كل الأمكنة… حتى في نفسك.
أن تصبح مجرد رقم في سجلّات المنظمات الدولية… وخيمة في تقرير… وصورة حزينة على غلاف خبر!
هو أن تتعلّم كيف تنام على خوف، وتصحو على جوع، وتضحك لتخفي الانكسار.
هو أن تشعر أنك عالق في منتصف العالم… لا تنتمي لما خلفك، ولا تنتمي لما أمامك.
النزوح موتٌ مؤجّل…
هو أن تبقى حيًا لأنك مُجبر، لا لأنك راغب.
أن تتنفس لأنك لا تملك خيارًا آخر، وليس لأن الحياة جميلة.
أن تمشي وجسدك ثقيل من الحنين، وروحك مثقلة بما لا يُقال.
هو أن تكتب على قماش خيمتك:
هنا كنا نحاول أن ننجو… إن لم تجد صاحب الخيمة، فاعلم أنه قد حاول أن يمارس حقه في حياة لا تشبه الحياة.
النزوح ليس حكاية تُروى، بل جرح يسكن، ودمعة تُحبس، وصرخة لا تُسمع!

