بقلم: م. إيهاب الدغمة
تخيل أنك تعيش في الهند وتفتح تطبيق تيك توك أو فيسبوك لأول مرة. ماذا تتوقع أن ترى؟ من الطبيعي أن يظهر لك محتوى هندي: أغانٍ بوليوودية، نكات محلية، وأخبار من مدينتك أو منطقتك. وربما تمتد دائرة المحتوى لتشمل بلداناً مجاورة مثل نيبال أو بنغلادش. هذا منطقي، أليس كذلك؟ المنصات الرقمية تُصمم خوارزمياتها لعرض المحتوى القريب جغرافياً لتجعلك تشعر بأنك جزء من محيطك.
لكن، ماذا لو كنت في غزة؟
عزلة رقمية مقصودة
عندما تفتح تطبيقات مثل تيك توك أو إنستغرام وأنت في غزة، ستجد المحتوى الغزي يملأ شاشتك: مقاطع من شوارع غزة، نكات محلية، ومتابعات يومية للأحداث الجارية في القطاع. ربما يظهر لك أيضاً بعض المحتوى المصري أو الأردني، بحكم القرب الجغرافي والثقافي. لكن المفاجأة الحقيقية تكمن هنا: نادراً ما يظهر لك محتوى من الضفة الغربية أو القدس.
وكأن الضفة الغربية ليست جزءاً من نفس الوطن. كأنها تقع في قارة أخرى، أو حتى عالم آخر.
تقسيم رقمي يُعمّق الانقسام السياسي
هذا ليس مجرد صدفة. الخوارزميات التي تتحكم فيما نراه على وسائل التواصل الاجتماعي قد تكون أداة لتقسيم الفلسطينيين ليس فقط جغرافياً، بل أيضاً ذهنياً وثقافياً. حين يتم عزل سكان غزة رقمياً عن الضفة الغربية، يبدأ الناس بالشعور أن لكل منطقة “عالمها الخاص” المنفصل عن الأخرى. هذا يعزز الانقسام السياسي والاجتماعي الذي يعاني منه الفلسطينيون منذ سنوات، ويجعل إعادة بناء الوحدة الوطنية أكثر تعقيداً.

الحرب الرقمية
هل تعتقد أن سكان الضفة يرون محتوى غزة بوضوح؟
الأرجح أن الإجابة لا.
ما يحدث هو عزلة رقمية متبادلة، حيث لا يعرف سكان الضفة عن تفاصيل حياة سكان غزة إلا من خلال الأخبار التي غالباً ما تركز على الصراع أو الأزمات، والعكس صحيح.
كيف تُبرمج عقولنا دون أن نشعر؟
الأمر لا يتوقف عند الحدود الفلسطينية. هناك هندسة اجتماعية عالمية تُستخدم لتوجيه الوعي الجمعي نحو رؤية معينة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. إذا كنت شاباً تعيش في أوروبا أو أمريكا وبدأت في تصفح الإنترنت لمعرفة المزيد عن الشرق الأوسط، ما الذي تتوقع أن تراه؟
• الرواية الإسرائيلية ستكون في المقدمة، تُظهر إسرائيل كدولة ديمقراطية تحاول الدفاع عن نفسها.
• المحتوى الفلسطيني؟ ستحتاج للبحث العميق حتى تجده. وعندما تجده، قد تواجه تحذيرات بأنه “محتوى حساس” أو “يتضمن مشاهد عنف”.
التلاعب الخفي عند تعلم اللغات
لنذهب أبعد من ذلك. حتى عندما تبدأ في تعلم اللغة العبرية باستخدام تطبيقات تعليم اللغات، ستلاحظ شيئاً غريباً. قبل أن تتعلم الحروف أو الأرقام أو الألوان، يبدأ البرنامج بتعليمك كلمات مثل “حب” و”سلام” و”محبة” و”أمل”.
هل هذه صدفة؟ بالطبع لا.
هذا الترتيب ليس عشوائياً. الهدف هنا هو زرع انطباع إيجابي عن الثقافة الإسرائيلية في ذهنك من اللحظة الأولى. من خلال التركيز على هذه الكلمات، يتم تقديم الإسرائيليين كشعب محب ومسالم، بينما يتم تجاهل السياسات العدوانية والاحتلال والقمع الذي يعاني منه الفلسطينيون يومياً.
الحروب لم تعد بالمدافع فقط
ما نشهده اليوم هو نوع جديد من الحروب: حرب على الوعي. لم تعد الحروب تُخاض فقط بالدبابات والطائرات، بل أصبحت تُخاض عبر الشاشات والخوارزميات. السيطرة على المعلومات تعني السيطرة على الحقيقة. ومن يسيطر على الحقيقة، يسيطر على العقول.
• التعتيم الإعلامي: الرواية الفلسطينية يتم حجبها أو تهميشها، بينما تُعرض الرواية الصهيونية كالحقيقة الوحيدة.
• تقسيم الوعي الفلسطيني: يتم عزل سكان غزة والضفة رقمياً لتعزيز الانقسام الاجتماعي والسياسي.
• برمجة العقول العالمية: يتم تقديم الإسرائيليين كشعب مسالم في التعليم والثقافة، بينما يُصور الفلسطينيون كطرف عنيف أو متمرد.
كيف نكسر هذه الحلقة؟
• الوعي هو السلاح الأول: إدراك هذه الأساليب هو الخطوة الأولى لمواجهتها. عندما تدرك أن ما يُعرض عليك قد يكون موجهاً، يمكنك التفكير بشكل نقدي وعدم قبول كل شيء على أنه حقيقة مطلقة.
• تعزيز التواصل المباشر: كسر الحواجز الرقمية من خلال بناء شبكات تواصل مباشرة بين الفلسطينيين في غزة والضفة، ومع الشباب حول العالم.
• إنتاج محتوى فلسطيني قوي وجذاب: استخدام أدوات الإعلام الرقمي لنشر الرواية الفلسطينية بطريقة حديثة تصل إلى جمهور عالمي.
ختاماً
نحن نعيش في زمن لم تعد فيه المعركة فقط على الأرض، بل أيضاً في عقول الناس. السيطرة على الخوارزميات قد تكون أقوى من السيطرة على الحدود. ولكن طالما هناك وعي وإرادة، يمكننا أن نعيد بناء الحقيقة، ونكسر الحصار ليس فقط على الأرض، بل أيضاً في عقولنا.

معركة العقول والوعي