بقلم: أ. مجيدة محمدي
شاعرة، وباحثة تونسية
منذ ولادتها كحلم يراود المثقفين والقوميين في مطلع القرن العشرين، كانت فكرة الوحدة العربية تحمل بريق الخلاص والتكامل، لكنها في الوقت الراهن تبدو أقرب إلى طيف يتجول في الذاكرة، منه إلى مشروع قابل للتحقيق. فهل بدأ الموت السريري لهذا الحلم؟ وهل نعيش فعلاً آخر أنفاسه؟
أولاً: خلفية تاريخية لفكرة الوحدة العربية
الوحدة العربية ليست فكرة عابرة، بل تمتد جذورها إلى مرحلة ما بعد سقوط الخلافة العثمانية، حيث برزت التيارات القومية كدعوة للتماهي الثقافي والسياسي بين شعوب المنطقة الناطقة بالعربية. تشكلت نماذج مختلفة عبر التاريخ، كالوحدة بين مصر وسوريا (1958-1961) وتجربة مجلس التعاون العربي، لكنها جميعاً باءت بالفشل أو ظلت حبراً على ورق. بحسب المؤرخ ألبرت حوراني، فإن القومية العربية كانت “صرخة في وجه الاستعمار ومحاولة لإعادة امتلاك المصير بعد قرون من التبعية” (حوراني، تاريخ الشعوب العربية).
ثانياً: إسرائيل والضغط الدولي كمحددات مدمّرة
إن تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 مثّل بداية التصدع البنيوي في النظام العربي، حيث فرضت واقعاً استراتيجياً متوتراً. الدول العربية لم تنجح في صياغة رد موحد، بل فشلت حتى في تنسيق مواقفها الدبلوماسية والعسكرية. الولايات المتحدة وأوروبا كرّستا جهودهما، خاصة بعد اتفاقية كامب ديفيد 1978، لتفكيك أي وحدة محتملة قد تُهدد وجود إسرائيل أو تعيد تشكيل خارطة النفوذ في المنطقة.
في تحليل صادر عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط (2020)، يُذكر أن “السياسات الغربية نجحت في تحويل الصراع العربي-الإسرائيلي من قضية جامعة إلى شأن محلّي، حيث أصبحت كل دولة تبحث عن تسوية منفصلة، تضمن بها استقرارها الداخلي حتى لو على حساب التضامن العربي”.
ثالثاً: الخليج وتغير هرم السلطة الإقليمي
في العقود الأخيرة، شهدنا تصاعد قوة دول الخليج اقتصاديًا وسياسيًا. المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تحديدًا، أصبحتا تمثلان قطبي الثقل الإقليمي، لكن هذا الصعود لم يُترجم إلى مشروع وحدوي شامل، بل زاد من حدة الانقسام.
تحول خطاب بعض دول الخليج إلى ما يُشبه “البراغماتية السيادية”، التي ترى أن حماية الكيان الوطني مقدم على أي مشروع عابر للحدود. يتجلى هذا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل (كما في اتفاقيات أبراهام 2020)، وتفضيل الشراكات الدولية المتقدمة (كالتحالف مع الصين والولايات المتحدة) على فكرة الانتماء العربي كرافعة استراتيجية.
رابعاً: التفاوت الاقتصادي كمفصل للتمزق
في الوقت الذي تعيش فيه دول كقطر والسعودية والإمارات طفرات اقتصادية غير مسبوقة، تغرق دول عربية أخرى في مستنقعات الفقر والديون والانهيار المؤسسي (مثل لبنان، سوريا، السودان، واليمن). هذا التباين أنتج واقعًا مأساويًا: لم تعد الأولوية هي “الكل العربي”، بل باتت “النجاة القُطرية”.
بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي (2023)، فإن الناتج المحلي الإجمالي للفرد في دول الخليج يتجاوز نظيره في دول المغرب العربي والشام بأكثر من عشرة أضعاف. ويؤكد التقرير أن “غياب تكامل اقتصادي عربي حقيقي يعزز من هشاشة النسيج الإقليمي ويجعل التضامن مسألة شعارات لا سياسات”.
خامساً: هل أصبح الجزء أولى من الكل؟
من الطبيعي أن تُقدم الدول مصالحها الوطنية على أية اعتبارات وحدوية، خاصة في ظل عالم تسوده الفردية السياسية والاقتصادية. لكن ما يحدث عربياً تجاوز البراغماتية إلى ما يُشبه التفكك النفسي للهوية الجامعة.
تراجعت فكرة “الأمة الواحدة” لحساب “النجاحات المحلية”، وأصبح المواطن العربي يجد في جنسيته القُطرية مفرًا من الإحباط الجماعي. ترى أجيال جديدة في الخليج، مثلاً، أن الاستثمار في المستقبل التقني والعلمي أولى من دعم دول تتخبط في فوضى سياسية لا تنتهي.
سادساً: ما بعد الحلم – هل من بدائل؟
ربما لم تمت الفكرة، لكنها بالتأكيد في غيبوبة عميقة. البديل ليس بالضرورة الوحدة الكاملة، بل أشكال تكامل وظيفي: اتحادات تجارية، شراكات بحثية، سياسات بيئية مشتركة، وهي ممكنة عبر منظمات إقليمية مثل الجامعة العربية إذا تم إعادة هيكلتها وتفعيلها.
كتب المفكر عزمي بشارة أن “الوحدة ليست شعارًا بل ممارسة تراكمية تبدأ من الأسفل: من اللغة، من التعليم، من الثقافة، من السوق، حتى تصل إلى السياسة” (في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي).
خلاصة:
الوحدة العربية لم تمت رسميًا، لكنها تمر بمرحلة موت سريري طويل. العوامل الدولية والإقليمية والمحلية تتكالب لتُحيلها إلى فكرة رومانسية من زمن مضى. التحدي الحقيقي اليوم هو كيف نحافظ على شعلة الانتماء الثقافي المشترك دون أن نحرق أنفسنا بوهم سياسي لم يعد له وقود.
المراجع:
حوراني، ألبرت. تاريخ الشعوب العربية، دار النهار، 1993.
بشارة، عزمي. في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي، المركز العربي للأبحاث، 2012.
Carnegie Middle East Center. “The Arab Disunity”, 2020.
البنك الدولي. تقرير التنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، 2023.
اتفاقيات أبراهام، نصوص رسمية وتحليلات، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، 2021.