بقلم د.فرح وائل أكرم أبو سيدو
صيدلانية و مدربة التنمية البشرية و الصحة.
في الأول من أيار من كل عام، يتجدد الموعد مع يوم العمال العالمي، فتُقام الفعاليات وتُعلَن الشعارات ويُحتفى بالإنجازات العمالية في أغلب دول العالم.
لكن في غزة، يتسلل هذا اليوم بهدوء، دون ضجيج ولا لافتات، كأنّه ذكرى لا تخص المكان، أو كأن العمال أنفسهم قد أصبحوا شيئًا منسيًّا تحت الرماد.
في أماكن كثيرة، يُربط هذا اليوم بالكرامة والحقوق والعدالة الاجتماعية، أما هنا، فهو يوم يوقظ الحسرات، يوم يُذكر فيه الغزيّون بما فقدوه، وبما لم يُمنحوا أصلًا.
العمل في غزة : معاناة مزمنة تتفاقم!
قبل الحرب، كان المشهد قاتمًا. بطالة مرتفعة، فرص محدودة، اقتصاد محاصر. ومع كل ذلك، تمسّك آلاف العمال بحلم البقاء. كانوا يستيقظون فجرًا، يحملون أدواتهم، وينتظرون فرصة في سوق العمل اليومية، التي كثيرًا ما كانت تخذلهم.
ومع بداية الحرب في السابع من أكتوبر، تغيّر كل شيء. تعطّلت الحياة، وتحوّل الكفاح اليومي إلى مأساة شاملة. توقفت المصانع، أغلقت المحال، وتعطّلت ورش البناء، وكل مصادر الدخل سقطت بضربة واحدة. أصبح العامل الغزي لا يسأل عن الأجر، بل عن الوجود. لا يبحث عن وظيفة، بل عن طوق نجاة.

العمل في غزة : معاناة مزمنة تتفاقم!
الكرامة في قلب الركام!
أن تكون عاملًا في غزة لا يعني فقط أن تكدح لتعيش، بل أن تصارع للبقاء. في ظل الحرب، العمل ليس وسيلة لكسب العيش، بل شكل من أشكال المقاومة اليومية. من يعمل، يتمسك بحقه في الحياة. من يكدّ، يؤمن أن الإنسان لا يُقاس بما يملكه، بل بما يقدّمه.
لكن ماذا يحدث حين يُجرّد الإنسان من أدواته؟ حين تُقصف ورشة حدادة بناها بيديه؟ حين تُهدم الخياطة الصغيرة ومحل النجارة والفرن الشعبي؟ حينها يفقد العامل ليس فقط رزقه، بل جزءًا من هويته. يصير عاجزًا عن ممارسة ذاته، معطّلاً في وطن لا يعترف بالجمود.
البطالة: أرقام تُفجع وواقع يُبكي!
تجاوزت البطالة في غزة كل الحدود، حتى أصبحت وصمة جماعية لا فردية. آلاف من خريجي الجامعات والحرفيين وأرباب الأسر بلا مصدر دخل، بلا أمل واضح، بلا دعم حقيقي. الحرب أكلت ما تبقى من السوق، وأغلقت الأبواب التي بالكاد كانت تفتح.
العمال هنا لا يحتاجون خطابات الدعم من خلف الشاشات، بل يحتاجون بيئة حقيقية للعمل، لاستعادة كرامتهم. لأن الجوع لا يُهزَم بالكلمات، واليأس لا يُداوى بالتعاطف. الفقر في غزة ليس نتيجة كسل، بل ثمرة حصار طويل وظلم مركب وانهيار متعمد لكل أسباب النجاة.

رسالة في يوم العمال: لا تنسوا غزة…
في غزة، لا عمل بلا أمل، ولا أمل بلا سلام!
العمل في أبسط صوره هو تعبير عن الحياة، ووسيلة لإثبات الذات. لكنه في غزة أصبح رفاهية مفقودة. إنّ غياب العمل لا يعني فقط الفقر، بل انهيار الدورة النفسية والاجتماعية للفرد. من لا يعمل لا يشعر بجدواه. من لا يكدّ لا ينتمي. من يُقصى عن ميادين الإنتاج يشعر وكأنه لا يعيش فعلاً، بل فقط يمرّ بين الأنقاض.
الأمل هنا لا يُبنى على الوعود، بل على العدالة. العدالة التي تضمن للإنسان أن يعمل، أن يساهم، أن يجد مكافأة لجهده. وهذه العدالة لن تتحقق إلا بوقف الحرب، وإنهاء الحصار، وإعادة الحياة إلى ملامحها الطبيعية.
رسالة في يوم العمال: لا تنسوا غزة…
في هذا اليوم، وبينما تُكرَّم الأيادي الخشنة التي بنت وأطعمت وعلّمت وصنعت، لا بد للعالم أن يلتفت إلى غزة. لا ليمنّ عليها بالمساعدات، بل ليعيد لها ما سُلِب: حقها في الحياة، في العمل، في أن يكون لعاملها مكان بين عمال العالم.
عمال غزة لا يريدون أن يُحتفَى بهم، بل أن يُنصفوا. أن يتوقف نزيفهم، أن تُزال العقبات من طريقهم، أن تتوقف الحرب التي تمزق يومهم وتقتل غدهم.
و ختاماً:
في يوم العمال، لا تُضيئوا الشموع فقط، بل أضيئوا الوعي.
لا ترفعوا الشعارات فقط، بل ارفعوا أصوات الحق.
ولتكن غزة حاضرة، لا كألم بعيد، بل كقضية حقيقية تنبض في ضمير كل من يؤمن بأن الكرامة العمالية لا تتجزأ، وأن الكفاح من أجل الخبز ليس جرمًا، بل حقٌ إنساني لا يُسقطه لا قصفٌ ولا صمتٌ عالمي.