لمن يبارك لنا في هذه المناسبة وقد اعتبرها عيدًا، لم تخطئ عزيزي، فإن فرحتنا بهذه الصفقة كفرحة الأضاحي بانتهاء عيد الأضحى، فهو عيد ولكن بمذاق ولسبب مختلف، فرحتنا ليست ببنود الصفقة بل بانتهاء شلال الدم، فرحتنا ليست بالانتصار فنحن لم نكن في حرب أصلًا لنتحدث عن انتصار، نحن كنا في إبادة جماعية بل في مجزرة، وفرحتنا كانت فقط بأنها توقفت.
“فما قدمناه من شهداء ومصابين ومفقودين ومعتقلين، وكم الدمار الهائل في البنية التحتية والمنازل والمدارس والجامعات والمستشفيات وكافة مرافق الدولة، مضافًا إليه الذل والانكسار والجوع والحرمان والخوف، لا يمكن أن نعتبره ضريبة انتصار، فنحن لم نرَ ما يوازي حجم ما قدمناه من ثمن باهظ”.
ليس هنالك عيب في الاعتراف بالهزيمة!
وليس خائنًا من يعترف بها!
وليس انهزاميًا من يتقبل هذه الحقيقة!
فقد هُزم المسلمون والرسول صل الله عليه وسلم بين ظهرانيهم في معركة أحد!
لم نقرأ أن الصحابة اعتبروا معركة أحد انتصارًا، بل كانت هزيمة عسكرية حدثت بسبب خطأ من بعض الأفراد، وتطلبت تغيير القناعات الدنيوية وتطوير القوة والعتاد لكي لا تتكرر. ولكنهم لم يعتبروا أن معركة أحد انتصارًا. هُزم المسلمون في أحد ليس لأنهم على باطل، بل لأن الرماة تركوا مواقعهم ونزلوا عن الجبل.
نعم، تسبب الرماة، والذين هم بين قوسين صحابة مجاهدون، بالهزيمة العسكرية، ولم يخرجهم هذا من الإسلام، ولم يكن طعنًا في مصداقيتهم، ولكنها كانت تجليًا لسنن الله الكونية ودرسًا في الأخذ بالأسباب، ودرسًا:
– درسًا يعلمنا أن الدعاء والإيمان لا يغنيان عن إعداد عدة منطقية، تجعل الجهاد قابلًا للتحقق وواقعيًا…
– درسًا علمنا أن مجرد كونك صاحب حق لا يعني أن بإمكانك انتزاعه، بل عليك أن تعمل حتى تصبح نِدًا لتتمكن من انتزاع حقك.
لماذا الترويج لفكرة الانتصار مصيبة؟
إن من يروج لفكرة انتصار غزة هو أشد خطرًا على القضية الفلسطينية من الصهاينة، فنحن لم نكن في حرب لننتصر، نحن كنا ضحية إبادة جماعية. نحن كنا ضحايا، وضحايا فقط، لم ننتصر ولم نكن نِدًّا. والفعل المقاوم الذي كان في بعض المناطق والأحيان لا يمكن اعتباره مواجهة، ولا يجعلنا نِدًّا. فعلى عظم هذا الفعل وبسالته فإنه لم يتعدَّ كونه ردة فعل من ضحية. “فحتى الحمل يضرب بأرجله وهو ينازع بين أنياب الذئب، لا يجعل هذا الفعل من الحمل نِدًّا ولا ينزع عنه وصف الفريسة أي الضحية”.
فما حدث ليس صراعًا مسلحًا بين قوتين انتهى بهزيمة، بل مجزرة وجريمة ارتكبتها قوة غاشمة مسلحة بحق أكثر من 2 مليون مدني أعزل.
إن ما حدث هو إبادة انتهك فيها جيش الاحتلال كل معايير حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي، حيث إن إجرامه لم يميز بين مدني وعسكري.
فقد أبادوا الحجر والشجر بلا أي مبرر قانوني أو حتى استراتيجي عسكري، بل تدمير بهدف التدمير فقط لا غير.
إن ما حدث هو جريمة يجب أن يحاكم مرتكبها وأن يتم محاسبته بوصفه مجرمًا وجزارًا، وليس بوصفه قائدًا منهزمًا.
“لذلك فإن على من يروج لفكرة الانتصار عليه أن يفهم ويدرك أنه بإلباسنا ثوب المنتصر، ينزع عن جيش الاحتلال ثوب الإجرام”.
إن ادعاء الانتصار ومطالبتنا بمحاسبة الاحتلال على جريمة الإبادة الجماعية هما خطان متوازيان لا يلتقيان، إما هذا وإما ذاك، (إما منتصر وإما ضحية).
نحن في مرحلة حساسة جدًا جدًا من تاريخ هذا الصراع! ولا يمكن أن نسمح بأن يمر ما حدث بنا من مجزرة تاريخية مرور الكرام، لن نقبل بتضييع حقنا في محاسبة هذا الاحتلال على جرائمه من أجل بعض الشعارات الرنانة التي تدغدغ المشاعر.

عن أي انتصار
أنا كغزي لم أكن نِدًّا حتى انتصرت، كنت ضحية وأطالب بمحاسبة قاتلي ومن أجرم بحقي. أريد تعويضًا عن هدم بيتي بلا حق، وعن هدر عمري بلا مبرر، وعن ألمي في فقد أحبتي بلا ذنب.
هل الانقسام السياسي سبب في رؤيتنا لما حدث بهذا الشكل؟
إن ما يثيره البعض بأن الانقسام السياسي في غزة هو سبب الخلاف في اعتبار ما حصل نصرًا أم لا هو تعزيز للانقسام وتشخيص خاطئ للمشكلة.
فإن كان هناك من يهدم في العمل المقاوم فقط لكرهه فصيلًا معينًا، لا يعني أن هذا شعور عام لكل من يرى ذلك، وأن كافة الغزيين الذين شعروا بالخذلان والانكسار هم كذلك فقط لأنهم يكرهون فصيلًا معينًا.
إن السبب في هذا الشعور المرير هو ما حصل معهم من كارثة عانوها بغض النظر عن المسبب.
فأغلب من لم يعتبر ما حصل نصرًا لم يقل ذلك لأن فصيله لم يكن في واجهة المقاومة، فكل الغزيين قاوموا وإن تفاوتت الأعمال وتأثيراتها؛ لكن كما قال أجدادنا: “من لم يرَ من الغربال فهو أعمى”.
ما خطورة اعتبار ما حصل نصرًا قياسًا على عدم تحقيق الاحتلال لأهدافه المعلنة؟
إن القياس المغلوط الذي اعتبر أن عدم تحقيق أهداف المعركة هو دليل على الهزيمة هو أكبر مصيبة، بل إنها النكتة الكارثية التي لا مجال للضحك عليها. فبهذا المنطق، انتصرت العراق على الجيش الأمريكي، وبهذا المنطق أيضًا انتصرت أفغانستان، وبهذا المنطق أيضًا لو انتهت حرب روسيا وأوكرانيا ستعتبر روسيا منهزمة.
إن الكارثة تكمن في أن هذا المقياس يخرج هذا الصراع الأخير من توصيفه الحقيقي، حيث إن كلمة “إبادة جماعية” هي الوصف الحقيقي والقانوني الذي يجب أن نستند عليه في المستقبل أثناء مطالبتنا بحقوقنا ومساءلتنا لمن أجرموا وارتكبوا فينا المجازر، وليس كلمة “حرب” و”انتصار” و… الخ.
ما حصل باختصار هو اعتداء وليس مشاجرة.
أعتقد أنكم تعلمون فداحة الاختلاف بين الوصفين وشتان بين من ارتكب هذا وذاك.
في الختام:
إن صمودنا وصبرنا لا ينفي أننا تألمنا وخفنا ووجعنا. نحن آدميون ولسنا من الأساطير، ولا ينقص من بطولتنا وصمودنا وصبرنا ما شعرنا به من هلع وحسرة وجزع. لا نختلف عنكم سوى أننا اعتدنا الصبر وألفناه وبتنا أقدر على ممارسته من غيرنا، ومع ذلك فاق ما حصل بنا صبرنا واستنفذه حتى بتنا كالأواني الخاوية.
فلا يوجد من يكره الشعور بنشوة الانتصار، ولكن للأسف لم نشعر بها، لم نشعر سوى بألم الفقدان لكل ما فقدناه وما زلنا نفقده، فكم جميلة هي الشعارات الرنانة والتغني بالمقاومة وبسالتها، لكن لنعطِ كل شيء حجمه كي لا نخسر فرصتنا في المحاسبة والمطالبة.
دمنا بخير ودام الوطن بخير، فلا وطن بدوننا، ولسنا بدون وطن.
بقلم: أ. عبد العزيز عرفة
عسى ما حل بنا أن يكون عسرا بعده يسر، وأن تصل بنا هذه التضحيات لما يستحقه أبناء هذا الشعب.