بقلم: أ. عبد العزيز عرفة
محامٍ، وناشط قانوني.
نعم عزيزي من يقرأ، لم ينجُ أحد من هذه المجزرة، فالضحايا ليسوا فقط آلاف الشهداء ومئات آلاف المصابين وآلاف الأسرى والمفقودين. بل كل الغزيين، فنحن شعب اعتاد العيش بعزة وكرامة، ولو سألت أي غزي لأخبرك أن ما عاشه في هذه الحرب أصعب من الموت، وأن فقد الكرامة مؤلم أكثر من فقد أحد أطرافك أو حتى حياتك.
لقد مارس الاحتلال سياسة الإذلال بتمعن وحرفية شديدين!
فمشاهد طوابير النزوح ليست عشوائية ولا عبثية ولا بهدف التأمين ولا تحييدًا للمدنيين كما ادعوا، بل لإذلال كل شخص عاش على هذه البقعة، ليلعن اليوم الذي كان فيه منتميا لها، ليلفظها في أقرب فرصة دون الحاجة لأي تدخل. وليس هنالك أي شخص على قيد الحياة في هذه الخيام.
فلا تعتقدوا أن من ترك منزله الذي كلفه عمره وعمر أبائه وأجداده وسكن الخيمة قد بقي حيًا، بل يتنفس فقط لأن الانتحار حرام ولأن دينه يأمره بألا يلقي بنفسه إلى التهلكة ولولا ذلك لما وجدت للخيام من ساكنين.
ليس هنالك أحياء في هذه الخيام بل أموات قد سجلوا أنفسهم بأنفسهم في دفتر الوفيات منذ حزموا أمتعتهم وغادروا مساكنهم.
إن الرصاص والقذائف والصواريخ لهي أهون ما عايشناه في هذه الحرب، فهي تنهيك بلحظة وتريحك، تؤدي بك لمكان مريح ومعروف، تنهي ألمك، أما هذه الرحلة في الخيام، فهي عذاب سرمدي لا منتهٍ، مؤلم بكل تفاصيله، مستمر لا ينقطع حتى ولو ثانية واحدة، يذكرك بجرحك الغائر كعصرة ليمون عليه لا ينتهي مفعولها. تنام في البرد فلا يؤلمك البرد بقدر ما يؤلمك أنك تعلم أن والديك على كبرهما وضعفهما يشعران به، لا يؤلمك البرد بقدر ما يؤلمك رؤية أطفالك يعانون منه بصغرهم وضعفهم وبراءتهم.

وقس على ذلك حر الخيام.
إن وقوف أي غزي على طابور المياه أو المساعدات لهو أشد فتكا عليه من الرصاص والصواريخ والقذائف.
فقد كنا شعبًا مثقفًا متعلمًا، نادرًا بل مستحيلًا أن ترى أميا في غزة، إن لم يكن خريجًا أو طالبًا فصاحب مهنة، جميعًا اعتدنا العيش بكرامة، وما زلنا لم نعتد الذل.
لم يبق منا حيًا، فمنذ النزوح وأرواحنا تتكسر شيئًا فشيئًا وتتساقط منا كما يتساقط ورق شجرة جاءها الخريف. سقطت أولى أوراقنا بفقدنا أقارب وأحباب وأصدقاء، ثم تلتها ورقة سقطت على طريق النزوح، ثم ورقة سقطت في أول ليلة بالخيمة، ثم ورقة سقطت عندما رأينا منازلنا وهي ركام، وتوالت الأوراق في طوابير المساعدات والمياه.
ثم هناك العجز الذي قضى على آخر ما كان منا من علامات الحياة، العجز ليس سيئًا بل سيئًا جدًا، مؤلم بشكل مبكي، خانق للشيوخ والرجال والفتية والنساء ولكل أطيافنا.
لقد أنهكنا العجز وقضى على آخر ما فينا
فلم يعد حيًا الأب الذي يعجز عن تدفئة أطفاله أو كسوتهم أو حتى إطعامهم أو حمايتهم وإرجاع شعور الأمان لهم.
لم تعد حية الأم التي ترملت وباتت مطالبة بالقيام بدور الأب الذي حتى لو بقي حيًا لم يكن ليستطع القيام به، فما بالكم بها مطالبة به مع دورها أصلا كأم مطالبة بالغسيل بالمياه الباردة في هذا الجو القارص، هذا إن تمكنت من الحصول على مياه للغسيل أصلا، مطالبة بأن تطبخ على الحطب هذا إن استطاعت توفير ما تطبخه لهم أصلا، مطالبة كغيرها بالكثير والقدرة محدودة والعجز مطلق.
انتهت المجزرة بحمد الله.
عسى أن يتمكن الجيل القادم من العيش بسلام وكرامة على هذه الأرض.
أما نحن فسلام على أرواحنا البائدة والمنكسرة.